في مثل هذه الأيام الأخيرة من شهر نوفمبر/تشرين الثاني قبل مئة عام، تصدّرت مصر عناوين الصحف في العالم، حيث افتتحت للمرة الأولى مقبرة الفرعون الأشهر توت عنخ آمون الذي ملأ الدنيا وشغل الناس وأصبح هوساً عالمياً استمر لسنوات طويلة. وربما سيظل الهوس به مستمراً لسنوات طويلة تالية أيضاً، فحالياً تحيي جامعات، ومعاهد، ومراكز بحثية وثقافية، ومنصات إعلامية الذكرى المئوية لهذا الاكتشاف الذي أذهل العالم. وفي مصر، افتتح قبل أيام منزل عالم الآثار البريطاني هوارد كارتر صاحب الاكتشاف في الأقصر، كما يجرى التحضير لافتتاح المتحف المصري الكبير الذي سيحتضن للمرة الأولى المجموعة الكاملة للملك الشاب.
هناك العديد من القصص عن اكتشاف كارتر لمقبرة توت عنخ آمون، لكن أشهرها وربما أقربها إلى حقيقة ما حدث يوم 4 نوفمبر 1922 هو ما سجله كارتر نفسه مع اقتراب انتهاء الموسم الأخير المتاح له للعمل في وادي الملوك. كان وحده مسلحاً بالأمل الكبير في العثور على المقبرة التي حلم بها وعثر على بعض دلائلها القليلة في سنوات العمل السابقة. في ذلك اليوم عثر العمال على أحجار غائرة ربما تشير إلى بداية سلم، فطلب كارتر من رجاله إزالة المزيد من الرمال حول تلك البقعة، في اليوم التالي ظهر منحدر مكون من 15 درجة، بعدها عثر العمال أخيراً على المدخل المسدود بالأحجار والملاط، لكن المفاجأة السعيدة تمثّلت في ختم الجبانة الملكية الواضح على الجدار، وإن تعكّر الجو قليلاُ باكتشاف منطقة أعيد طلاؤها في الجزء العلوي من جدار المدخل، بما يعنى أن أحدهم قد سبقهم إليها.
أرسل كارتر إلى اللورد كارنافون، ممول الحفائر، يهنئه بعدما تأكد من الوصول للمقبرة الملكية المكونة من أربع غرف بمساحة تبلغ 110 أمتار: "أخيراً توصلنا إلى اكتشاف عظيم في الوادي، مقبرة رائعة بأختام سليمة"، وفي 23 نوفمبر وصل اللورد وابنته إيفيلين، وفور وصولهما بدأت أعمال التنظيف الأخيرة، ثم أصبح المدخل جاهزاً. وعند الساعة الرابعة عصراً يوم 24 نوفمبر صنع كارتر فجوة في المدخل النهائي وأوقد شمعة وحدق في الفتحة متجاهلاً لهفة اللورد اللاهث خلفه والذي يتساءل عما يراه، استرد كارتر أنفاسه بعد لحظات وأجاب: "أشياء رائعة".لاحقاً كتب كارتر: "في البداية لم أتمكّن من رؤية أي شيء، فالهواء الدافئ يخرج من الغرفة مما تسبب في اهتزاز لهيب الشمعة، لكن الآن، وقد اعتادت عيناي الضوء، ظهرت تفاصيل الغرفة الداخلية ببطء من خلال الضباب، حيوانات غريبة وتماثيل وذهب.. بريق الذهب في كل مكان".دوّن كارتر بعدها موضع كل شيء وتفاصيله، من أصغر الأجزاء إلى العناصر التي راكمها الكهنة القدامى بشكل عشوائي بعد عمليات نهب سابقة للمقابر، وفي المجمل تم العثور على أكثر من 5000 قطعة من أدوات زراعية إلى أضرحة فخمة، وملابس، وألعاب، وجواهر، ومستحضرات تجميل، وطعام، وأثاث، لا تزال جميعها محل دراسة حتى الآن.طبقات حول الفرعون"كانت المقبرة صغيرة على نحو غير عادي بالنسبة إلى فرعون، لكن الغرف كانت مليئة بكل ما يحتاج إليه ليعيش ملكاً إلى الأبد". يقول توم مولر في العدد الأخير من مجلة ناشيونال جيوغرافيك المخصص للاحتفال بمئوية الفرعون الذهبي، وهو من أجمل ما قدم خلال تلك الأيام الاحتفالية، حيث لم تكتف المجلة بالتذكير بقصة الاكتشاف المذهل، بل استخدمت تقنيات عرض ذكية لتقدم عبر موقعها ونسختها الورقية تجربة قراءة غير مسبوقة حسب ظني، يمكن اعتبارها بمثابة إعادة تقديم للاكتشاف المذهل، حيث يمكن للمتصفح أن يشاهد للمرة الأولى تحليلاً ووصفاً دقيقاً لما حوته كل طبقة من طبقات اللفائف التي أحاطت جثمان الفرعون الشاب، وأيضاً طبقات ومكونات ضريحه وتوابيته.
فمن المعروف أنه في قلب مقبرة الملك، كان هناك تابوت ضخم منحوت من كتلة واحدة من الكوارتزيت وكان يحوى بداخله ثلاثة توابيت أخرى على شكل مومياوات متداخلة مثل دمى الماتريوشكا الروسية، يصور كل تابوت الملك "توت" ممسكاً برموز السلطة الملكية.حين رُفع غطاء التابوت الثالث والأخير الذي يزن 110 كيلوغرامات من الذهب الخالص، ظهرت للمنقبين واحدة من أعظم قطع الفن المصري القديم، القناع الذهبي الرائع المطعم باللازورد والعقيق الأحمر والكوارتز والفيروز والزجاج، متوجاً بحيّة الكوبرا والعقاب واللحية المجدولة، أما جسد الملك فكان مغطى بالكامل بالأشرطة الذهبية المرصعة بالزجاج والأحجار الكريمة وهو في وضعية "أوزوريس" إله الموتى، بيدين ذهبيتين متقاطعتين. وحسب تحليل علماء الآثار، يبدو أن الكهنة القدامى قاموا بصب كمية كبيرة من الرانتنج على المومياء ليلتصق بها القناع، لذا كانت هناك صعوبة كبيرة في فك القناع وأيضاً اللفائف المحيطة بالمومياء. حتى أن مشروع دراسة مومياء "توت" تأخر عامين بعد الإعلان عن الاكتشاف، ليبدأ بالتحديد في 11 نوفمبر 1925، ووجد الفريق أن المومياء في حالة سيئة نتيجة كثرة السوائل التي سكبت عليها، لكن المفاجئة كانت في عدد القطع المحيطة بها مع كل طبقة من اللفائف، وغالبيتها من الذهب والأحجار الكريمة، وتشمل الكثير من التعاويذ والعقود والتمائم والأساور والحليّ لأصابع اليد والقدم.6 أيام حاسمةتعمّد المحنّطون القدماء إخفاء نحو 140 قطعة نفيسة بين 17 طبقة من ضمادات الكتان الرفيعة الملفوفة حول مومياء الفرعون "كان يعتقد أن جميعها تساعد الملك بطريقة سحرية في حياته بعد الموت". تقدّم المجلة تسلسلاً زمنياً لتواريخ فك اللفائف والقطع التي وجدت في كل طبقة مع صور توضيحية تشرح طبيعتها.ففي اليوم الأول، 11 نوفمبر 1925 أزال فريق العمل الطبقتين الأولى والثانية، ووجدوا ستة أطواق ذهبية رفيعة معلقة حول رقبة الفرعون بأشكال النسر والثعبان والصقر، كـ"أيقونات تقليدية للحماية الأبدية في الآخرة". كما استقرت أشياء رمزية أخرى منها خنجر احتفالي على الفخذ، وأكدت الاختبارات التي أجريت عليه وجود مستويات عالية من الكوبالت والنيكل اعتبرت "دلائل على مصدره النيزكي المحتمل"!في اليوم التالي تمت إزالة الطبقات 3 و4 من الضمادات المتحللة من الجزء السفلي من المومياء، وهو ما مكن من تعرية الجسم حتى الجلد من أعلى البطن إلى القدمين "بالقرب من جلد الملك لم تكن اللفافات أكثر من مسحوق متفحم"، ووجد الفريق أصابع القدم مغطاة بالذهب وقد تم وضع قدمي المومياء بعناية في خفين من الذهب أيضاً، في هذه الطبقة تم العثور كذلك على صدرية برأس صقر على صدر الملك، وذراع ذات أساور، وخنجر ذهبي مرصع بزجاج صغير ملون، وحجر مطعم بالذهب.
في اليوم الثالث، تم كشف الطبقات من السادسة وحتى العاشرة المحيطة بالذراع اليسرى واكتشف الفريق أساور وخواتم ذهبية تزين أصابع الفرعون "تحتوي بعض القطع على أنماط رائعة من الخرز الحبيبي صنعت من الإلكتروم وهو مزيج من الفضة والذهب". وفي اليوم الرابع بعد تجريد الجزء السفلي من الجسم وتحرير الأطراف تماماً، تمكن أعضاء الفريق من تقدير عمر الفرعون وكان يتراوح بين 17 إلى 19 عاماً.في اليوم الخامس، وصل الفريق إلى الرقبة والتي كانت مزينة أيضاً بمجموعة كبيرة من العقود والتمائم، لكن العملية الأصعب كانت في اليوم التالي وهي تحرير رأس الملك من القناع الذهبي، حيث وجد الفريق أن الجزء الخلفي من الرأس كان ملتصقاً بالقناع التصاقاً شديداً كما أشرنا سابقاً "إلى درجة أنه سيتطلب إزميلا ومطرقة لتحريره"، لكن في نهاية المطاف استخدم الفريق سكاكين ساخنة لفصل القناع عن الرأس، وما إن تم خلع القناع حتى عُثر على رأس توت عنخ آمون "حليقاً بعناية" بثقبين في الأذنين وبروز في الضروس الخلفية.وإن مكنت تلك العملية، العلماء من تحديد سن توت عنخ آمون بدقة، فإن سبب موته المبكر ظل لغزاً عصياً على الحل حتى الآن، وتضمنت الفرضيات المحتملة لأسباب الوفاة: حادث عربة، وهجوم فرس النهر، ونوبة قاتلة من الملاريا، وحتى الاغتيال، لكن أياً من تلك الفرضيات لم تثبت بدلائل قاطعة "لكن ثمة أمراً واحداً واضحاً: وفاة الحاكم الشاب كانت مفاجئة وغير متوقعة"، مما اضطر المسؤولين للاستيلاء سريعاً على مقبرة ضيقة وغير مكتملة وإعدادها سريعاً لتضم جثمان توت وكنوزه الوفيرة.