قدّرت هيئة المسح الجيولوجي الأميركية في العام 2010 احتمال وجود ما يقرب من 122 تريليون م3 من مصادر الغاز غير المكتشفة في حوض شرق المتوسط قبالة سواحل سوريا ولبنان وفلسطين المحتلة وقبرص، بالإضافة إلى ما يقارب 107 مليارات برميل من النفط القابل للإستخراج.
على ضوء تلك التقديرات، زحفت الدول بجيوشها إلى المنطقة، لتنال حصتها من كميات الطاقة المخزّنة في عمق مياه البحر المتوسط. ما فتح شهية الشركات المستخرجة للنفط والغاز، فدفعت بحكوماتها للتوجه عسكريًا نحو المناطق الواقعة على البحر المتوسط، كي تربح المناقصات على وقع ضجيج الحرب. وهكذا حصل، بين دول الجوار، تركيا وقبرص واليونان وإسرائيل، وروسيا في سوريا، وفرنسا في لبنان، وإيطاليا الحالمة بدخول الشرق المتوسط، وطبعًا الولايات المتحدة المتواجدة أصلًا في المنطقة.
أمام هذا الزحف، وعلى وقع ضرب الأنظمة القائمة بهدف خلق الفوضى في الشرق الأوسط، كانت الولايات المتحدة الأميركية، ترسم خريطة للشرق الأوسط، بما يتناسب ومصالحها الإستراتيجية. لذا، اعتبر أنّ تقديرات المسح الجيولوجي الأميركي، ليست سوى بداية للمشروع التقسيمي في المنطقة، وانطلاقًا لعرقلة الطموح الصيني للمشروع التاريخي الذي افتتحه الرئيس الصيني شي جين بينغ "الحزام والطريق" عام 2016. إضافة لإغراق الروس في الوحول السورية، كما كان حال الإتحاد السوفياتي في دخوله أفغانستان، وتطويق إيران، عبر عملية التطبيع العربي المستمر مع الكيان الإسرائيلي.
في المقلب الآخر من آسيا، وتحديدًا في شطرها الغربي، قد يتجدد سيناريو سواحل البحر المتوسط، على سواحل بحر قزوين. تصبّ في هذا البحر المياه القادمة من نهر الفولجا الروسي، ونهر الأورال المارّ بأراضي كازاخستان، كما ويمكنك أن ترى إيران تحمل هذا البحر، وروسيا تحتضنه من الميسرة، وكازاخستان تأبى إلا أن تمسك برأسه وصدره من الجهة اليمنى، وتترك بقيته لتركمانستان.
لكنّ السؤال: ما الذي يجعل من هذا البحر الذي يكاد أن يكون منسيًا، بحرًا جاذبًا للصراعات الدولية في المستقبل القريب؟
إنه النفط طبعًا، فكما هو الحال على سواحل البحر المتوسط، كذلك سيكون في بحر قزوين. لذا، قد نشهد الفوضى المنشودة على سواحله بين الدول المطلة عليه حول كيفية توزيع الطاقة الطبيعية وتقاسم موارده. هذه المنطقة الجيوإستراتيجية دخلت في المشروع الأميركي بهدف تثبيت قواعد عسكرية لأميركا، مع مستشار الأمن القومي زمن الرئيس جيمي كارتر، "زيغينيو بريجينسكي" عندما قام بزيارات مكثفة إلى المنطقة كمستشار لشركة النفط الأميركية "أموكو".
إنّه النفط الذي يرقد تحته، حيث تشير التقديرات أنه يتفوق على منطقة السعودية، والكويت والعراق. وسيكون هذا سبب الصراعات القادمة، والتوترات بين الدول العظمى والإقليمية على حدّ سواء. تشير تقديرات موقع "ستراتفور" إلى أنه يحتوي على 48 مليار برميل من النفط، و8.7 تريليون متر مكعب من الغاز، في احتياطات مثبتة أو محتملة. فالمكتشفات الحالية من البترول والغاز تطرح بدورها أسئلة حول جنسيات الشركات المستخرجة، وطرق التصدير، والأراضي التي يجب أن تمر منها في ضوء الإختلافات الحاصلة بين دول المنطقة وطموحاتها.
من المؤكّد إذًا أنّ النفط، وموارد الطاقة المختزنة في أعماقه سيكونان العامل الجاذب للصراعات. ولكن هل التقديرات وحدها كفيلة بإشعال الحرب في منطقة غرب آسيا؟ قطعًا لا.
بحر قزوين لن يكون في المستقبل القريب حيزًا جغرافيًا إقليميًا فحسب، بل سيكون موقعًا استراتيجيًا للقوات الأميركية، لفرض النفوذ، وقطع الطريق على المدّ الصيني غرب آسيا، وتطويق الصين وروسيا وإيران معًا. إذ تعتمد السياسة الأميركية على إعادة رسم طريق الحرير القديمة، وما احتلال افغانستان عام 2011، إلا دليل على التحضير لحصار مرتقب في بحر قزوين. وما نشر الفوضى الخلاقة في الشرق الأوسط، إلاّ لعرقلة مشاريع تلك الدول التي باتت تنافس الولايات المتحدة على قيادة العالم.
أصاب المؤرخ اليوناني "ثيوسيديدس"، عندما طرح نظرية "حتمية الحرب بين القوة القائمة والقوة الصاعدة"؛ فالصراع القائم بين اللاعب الأمريكي من جهة، والصيني والروسي والإيراني من جهة ثانية، خير دليل.
الصين تلك الإمبراطورية الإقتصادية الحالمة باجتياح العالم، لم يبق أمام حلمها إلّا عقبة القيام بالضربة القاضية على الولايات المتحدة كي تحلّ مكانها في القيادة، وروسيا التي أخذ رئيسها فلاديمير بوتين، قرار إعادة المجد السابق لروسيا عبر دفن روسيا المطيعة للقرارات الغربية، وإيران التي تحاول تنظيم هلالها الشيعي، اجتمعوا جميعًا على كسر القوة القائمة المتمثلة في الولايات المتحدة الأميركية.
لذا، تدرك الإدارة الأميركية المنتخبة بقيادة الرئيس جو بايدن، هذا الخطر الداهم لمستقبل القيادة العالمية من قبل تحالف هذه الدول. وهل هناك أفضل من نشر الفوضى في بحر قزوين لعرقلة هذه الطموحات؟! هذا البحر الذي تضمّ سواحله المتناقضات الدينية والعرقية والمصالح الاقتصادية!
لطالما كان بحر قزوين محل خلاف بين الدول المطلة عليه، لا سيما فيما يتعلق بتقاسم الثروات الطبيعية الهائلة لأكبر بحر مغلق في العالم. انطلاقًا من خلافات بترسيم الحدود البحرية، وكيفية تقسيم موارد الطاقة، ورغم الإتفاق الذي وقّعته هذه الدول لتوزيع الثروات، إلاّ أنّ الولايات المتحدة ستعمد حتمًا إلى تأجيج الصراع في هذه البقعة الجغرافية من العالم، لإلهاء الدول المنافسة لها، وهذه المرة على حدودهم بالمباشر.
د.جيرار ديب/ أستاذ جامعي ومحلّل سياسي