عندما غادر أهالي الجنوب وضاحية بيروت الجنوبية وبعلبك الهرمل منازلهم على عجل عشية تعرض قراهم لقصف إسرائيلي، لم يخطر للكثيرين أن فترة إقامتهم ستطول الى حين تبدل المواسم، لم يحضروا معهم كسوة الشتاء ظناً منهم أنهم عائدون إن لم يكن في أيام ففي فترة أسبوع على أبعد تقدير.
بيئة غير صحّيةطالت فترة النزوح القسرية في البقاع منذ 24 أيلول الماضي، ولا يزال العدوان الإسرائيلي يمنع الناس من العودة إلى بيوتهم، أقله لإحضار ما يقيهم برد الشتاء. وهذا ما يفاقم من سوء أحوال النازحين الى مراكز الإيواء الرسمية تحديداً، حيث يفترش الناس الأرض الباردة، من دون سجادة تفصلهم عن برودتها. أما الحرامات التي وزعت عليهم فتبين أنها لا تتناسب وبرودة المناطق الجردية ومن ضمنها البقاع، فيما المازوت لا يزال مفقوداً في جميع هذه المراكز، وتتحكم به بيروقراطية إدارة سيئة في تدارك المشاكل قبل وقوعها.ولكن البرد ليس وحده الهم الكبير بالنسبة لعلي حمية، الذي ينزح مع عائلته الى أحد مدارس مدينة زحلة، وإنما صحة طفله حسن، إبن العامين الذي يعاني من ثقبين في القلب منذ ولادته. يحتاج حسن الى آلة بخار يمرر عبرها علاج Pulmicort الذي يساعده على التنفس. كان يتقاسم الجهاز في منزله في بلدة طاريا مع جده الذي يعاني أيضاً من ضيق في التنفس. وعندما نزحت العائلة من دون الجد، تُرك الجهاز للجد ظناً من والديه أنها مسألة أيام وسيعودون، وكانت صحة الطفل جيدة في حينه. ولكن البيئة غير الصحية في مراكز الإيواء كما تقول والدة حسن، كما البرد، أثرا سلبا عليه، عاد ليعاني من ضيق في التنفس. بينما الوالد الذي يقول أنه أنفق ستة مليارات ليرة لعلاج إبنه من المشاكل التي ولدت معه، لم يعد قادراً على تأمين هذا الجهاز.المازوت ممنوعتقطن مع علي وعائلته، عائلة أخرى، تخلت عن السجادة للأطفال، لأن حصة كل غرفة من المساعدات كانت سجادة واحدة، بينما هي تحتاج الى سجادتين. وحتى السجادة التي حصلوا عليها إنتزعها علي، كما يقول، بالقوة. وعليه لجأ أفراد العائلة، الى التحاف حرامين وحشر أجسادهم ببعضهم البعض، ليلاً حتى يستمد كل منهم الدفء من الآخر.لا تنفصل هذه الحال في معظم مراكز الإيواء بالبقاع، حيث لا مازوت في خزانات المدارس، وحتى لو وجد يمنع إستخدامه بقرار من وزير التربية إلا وفقا للأصول، مثلما هو الحال بالنسبة لأموال صناديق المدارس المفلسة بالأساس، كما تشير مصادر تربوية. وعليه يضع مدراء المدارس مسؤولية تأمين المازوت على لجنة الطوارئ المشكّلة في محافظة البقاع، بينما يقول محافظ البقاع كمال أبو جودة، إنها تقع على عاتق هيئة الطوارئ الحكومية، لما تتطلبه من نفقات مرتفعة.وفقا لإحدى العاملات الإجتماعيات في مراكز الإيواء، بدأت مأساة البرد ترخي بظلالها فعلاً على النازحين في معظم مراكز الإيواء، وإذا كان الناس يتلمسون أشعة الشمس الضئيلة نهاراً ليستمدوا حرارة من دفئها، فإن لا شيء قادر على قتل البرد ليلاً سوى المدافئ. وتكفي زيارة بعض مراكز الإيواء للإلتقاء بأعداد كبيرة من الأطفال الذين يعانون السيلان بأنوفهم وإحمرارها بشكل دائم.وإنعدام التدفئة يترافق حسب ما تقول نزيلة في أحد مراكز الإيواء، فضلت عدم ذكر إسمها،مع سوء تغذية. فتشرح "أن جودة الطعام الذي يصل جاهزا الى مراكز الإيواء سيئة، وتكاد حصص المعكرونة والبرغل تتكرر يومياً، وهذا طعام لا يؤمن التغذية الكافية برأيها، ويهدد الأطفال بتراجع مناعتهم".سوء تغذية ويشكل سوء التغذية قاسماً مشتركاً لمعاناة العائلات التي تفتقد لدخل شهري ثابت، أي العائلات التي ليس فيها عناصر من القوى الأمنية والجيش أو موظفين في الدولة، الذين لا يزالون ينفقون على إقامتهم في بعض مراكز الإيواء. ومن هنا تلفت السيدة الى إقتراحات قدمت للمعنيين في المراكز لاستبدال الوجبة اليومية بمبلغ عشرة دولارات يدفع لكل عائلة، لتتناول ما يتناسب مع إحتياجاتها. وتقول السيدة "إشتقنا حتى للبطاطا ولحبة فاكهة" مشيرة الى أنها وأولادها ينامون جياعاً في بعض الأحيان لأن الطعام الذي يصل يتلف من دون أن يتناوله أحد. في عائلة السيدة أيضاً طفل بعمر 11 سنة يعاني من شلل دماغي، وهو غير قادر على تناول الطعام ما لم يطحن، فيما ظروف مركز الإيواء من نقص الدفء والغذاء تفاقم حالته سوءا.يشير أحد المعنيين في جمعيات إنسانية محلية في مدينة زحلة، الى مراكز إيواء تضم أعدادا كبيرة من الأطفال، وقد إكتشف ذلك خلال توزيع وجبة الإفطار اليومية على بعضها، حين رفضت مديرة تسلم كميات موازية لأعداد النازحين المسجلين لديها، كون معظم الأطفال فيها لم يبلغوا بعد سنتهم الأولى. وتتساوى هذه المراكز مع غيرها في إنتظار كميات المازوت التي وعد رئيس لجنة الطوارئ وزير البيئة ناصر ياسين بوصولها قريباً الى المدارس، علماً أن ياسين إبن البقاع ويعلم جيداً أن لا غنى للبقاعيين عن المدافئ بدءا من أول شهر تشرين الثاني.بانتظار العودة غير أن الأسوأ من كل ما ذكر، ما تقاسيه عائلات تنام في العراء، ظناً منها أنها عائدة الى بيتها في اليوم التالي. "المدن" إلتقت واحدة من هذه العائلات التي تضم 41 شخصاً، نصفهم من الأطفال. نزحت الى زحلة مع بداية العدوان الإسرائيلي على بعلبك. ولما كانت كل مراكز الإيواء قد أغلقت على أعداد هائلة من النازحين، إختارت العائلة أن تقيم في باحة المدرسة الخارجية، شرط أن تبقى مجتمعة من الجد الى الأطفال في مكان واحد. يقول يوسف، كبير العائلة، إن عائلته إستعاضت عن الأبواب بفرشات نشرت على شريط فاصل في الملعب، علّها تعترض لفحات البرد وتمنعها من إختراق مساحاتهم. ومع ذلك تقول الجدة "عصمت" أن إحدى حفيداتها إستيقظت ليلاً لتطلب من والدها بأن يحضنها حتى تشعر بالدفء.والنقص كما تقول إحدى العاملات الإجتماعيات، يطال كل مستلزمات التدفئة في مراكز الإيواء، مشيرة إلى أنها تستعين أحياناً بأصدقاء لها لتأمين الثياب للأطفال، وخصوصاً للذين ينتمون الى الطبقة الاجتماعية الأكثر ضعفاً من بينهم وغير قادرة على شراء الملابس الجديدة. وتشير الى توفر أدوية الأمراض المزمنة في بعض المستوصفات وليس كلها. علماً أن بين النازحين من تعرض إلى صدمات نفسية جراء الحرب، ويحتاج الى دعم نفسي، بينما كل المعنيين بشؤون الإيواء لا يولون هذا الأمر الأهمية التي يستحقها.تخلص الجولة الميدانية التي قامت بها "المدن" على بعض مراكز الإيواء، الى أن المقيمين فيها ليسوا بخير. وجوه أطفالهم يملؤها البؤس. أبدانهم باردة. وغذاؤهم تنقصه "التغذية". وجزء كبير منهم وصل الى حافة الإنهيار نفسياً وجسدياً. فيما يبحث هؤلاء عن سندهم في دولة، على أمل أن تتوقف عن الإستعراضات الإعلامية، وتثبت جهوزيتها عملياً، أقله من خلال المباشرة فوراً بتوزيع كميات المازوت على مراكز الإيواء ولو متأخرة.