تحتلّ منطقة القرن الأفريقي بؤرة الاهتمام الدولي هذه الأيام، خاصة مع وصول التوتّر بين الصومال وأثيوبيا لمستويات مقلقة تضع المنطقة على حافة “برميل بارود”، وتنذر بحرب محتملة بين البلدين. ولا شك أن الحرب بين أثيوبيا والصومال ستكون حدثاً خطيرًا في منطقة لم تعرف إلا الحروب: وذلك ببساطة لأن الحرب إن اشتعلت، فلن تبقى محصورة بين اثيوبيا والصومال ، بل ستجر معها دولاً أخرى على رأسها مصر، وتركيا، فضلا عن دول القرن الأفريقي، مثل إريتريا، وجيبوتي، وسوف تؤثر على سلامة الملاحة في البحر الأحمر، أحد أهم الممرات التجارية في العالم، الذي يعاني أصلاً في الوقت الحالي بسبب سيطرة الحوثيين على باب المندب.
الطموحات الأثيوبيّة
لمّا كان الوصول الى منفذ بحري “هدفا استراتيجيا” بالنسبة لاثيوبيا ، عمدت إثيوبيا إلى الاتفاق مع الكيان الانفصالي “ارض الصومال” او إقليم”صوماليلاند”، للحصول على منفذ بحري على خليج عدن، مقابل اعتراف أثيوبيا باستقلال هذا الإقليم ، والذي سيحظى أيضا من خلال الاتفاق بحصّة في شركة الخطوط الأثيوبية.
واقليم ” أرض الصومال” هو اقليم تابع للصومال لكنه أعلن استقلاله عنها اعتباراً من عام 1991، وذلك بالتزامن مع الحرب الأهلية التي أطاحت بحكومة البلاد حينها. وهو رابع أفقر دولة في العالم “إذا استقل” ، وفقا لتقديرات البنك الدولي للناتج المحلي الإجمالي لهذا الإقليم؛ بينما لا يتعدى عدد سكانه ال 1.5 مليون نسمة. ولهذا الإقليم برلمان، وانتخابات وعلَم وجوزات سفر خاصة به، ولا ينقصه ليصبح “دولة” إلّا الاعتراف الدولي. ويعتبر اتفاق الصومال مع أثيوبيا خطوةً في هذا الاتجاه.
وقد أحدث الاتفاق الأخير بين إثيوبيا وإقليم صوماليلاند زلزالا في منطقة القرن الأفريقي . فمنح إثيوبيا منفذاً بحرياً استراتيجياً على خليج عدن ، عبر ميناء بربرة، سيؤثر بشكل مباشر على التوازنات القائمة في منطقة القرن الأفريقي، ويعزز من قدرة اثيوبيا على التفاوض في الملفات الإقليمية، خاصة ملف سد النهضة.
كما أن الاتفاق مقلق جدًّا بالنسبة لمصر، التي ترى فيه تهديداً مباشراً لأمنها القومي، خاصة وأن ميناء بربرة يقع على مقربة من باب المندب، المدخل الرئيسي لقناة السويس. وتخشى مصر من أن يؤدي هذا الاتفاق إلى تقويض مكانتها الإقليمية، وتقليل تأثيرها على الملاحة في البحر الأحمر.
وبموجب هذا الاتفاق، ستحل أثيوبيا أكبر مشاكلها الجغرافية بالحصول على منفذ المياه الدولية، بعد أن كانت تتمتع بإطلالة على البحر الأحمر تتجاوز 2200 كيلو مترا حين كانت إرتريا جزءا منها. لكن مع انفصال إرتريا عنها عام 1993، اصبحت اثيوبيا دولة حبيسة، مضطرة للاستعانة بموانئ جارتها “جيبوتي” للتواصل مع العالم مقابل مئات الملايين من الدولارات.
والجدير بالذكر أن رئيس وزراء أثيوبيا “ابا أحمد” ، كان قد مهّد لرغبة اثيوبيا في الحصول على منفذ على البحر في خطاب في 13 أكتوبر 2023، معتبرا هذه القضية “مسألة وجودية”، زاعما أنّ “لأثيوبيا الحق في مياه البحر الأحمر الذي لا تطل عليه مباشرة، كما لمصر والسودان الحق في النيل الذي لا ينبع من أراضيهما” .
من جهتها، ترى الصومال ان اقدام أثيوبيا الاستفزازي على توقيع مذكرة تفاهم “غير شرعية” مع “كيان انفصالي” أمر يهدد وحدة وسلامة وسيادة الدولة الصومالية، التي تصرّ عليها . و ترفض الصومال رفضا تاما منح إثيوبيا سوى منفذ بحري تجاري محدود، بينما تطمح أديس أبابا إلى سيطرة كاملة على هذا المنفذ، بما يضمن مصالحها الاستراتيجية.
هذا التباين في الرؤى حول طبيعة المنفذ، والذي يعكس تاريخاً طويلاً من التنافس الإقليمي، لا يشكّل عقبة أساسية أمام التوصل إلى حل سلمي للنزاع فحسب، بل يزيد من تعقيد الأزمة وتوسيع رقعة الصراع، و تزايد التحالفات العسكرية والاقتصادية والاصطفافات الدولية.
الدور المصري
في ظلّ الخلافات المتصاعدة مع إثيوبيا، لجأت الصومال إلى تعزيز علاقاتها مع مصر، التي ترى ضرورة اجهاض الطموحات الإثيوبية، لما تمثله من تهديد لمصالحها في المنطقة . وقد تجسَّد ذلك في الاتفاقية التي وقعتها الدولتان في 14 في آب الماضي ، والتي بموجبها ستحل “قوات مصرية” في بعثة حفظ السلام الصومالية، محل “القوات الإثيوبية” التي من المفترض أن تغادر في نهاية السنة لتأتي مكانها بعثة القوات المسلحة المصرية؛ الأمر الذي أثار مخاوف أثيوبيا من تصعيد التوتر الإقليمي، حيث ترى أديس أبابا في هذه الخطوة تهديداً مباشراً لأمنها واستقرارها. وعلى الرّغم من أنّ مصر أكدّت أنّ هدف القوات المسلحة المصرية هو حفظ السلام وتدريب الجيش الصومالي ورفع كفاءته ، وحماية المنشآت الحيوية للدولة الصومالية، والدفاع عن الصومال من المجموعات الانفصالية والإرهابيّة؛ إلا أن إثيوبيا تشكّك في هذه الأهداف، وترى فيها محاولة لتقويض نفوذها في المنطقة.
التصعيد الاثيوبي يقابله تصعيد صومالي مصري
ورداً على ذلك، وبدلا من استعداد القوات المسلحة الاثيوبية للانسحاب من الصومال مع انتهاء مهمة الاتحاد الأفريقي ، قامت أديس أبابا بنشر قوات عسكرية إضافية في “إقليم غيدو”، وسيطرت على مطارات رئيسية مثل لوق ودولو وباردير. هذه التحركات العسكرية الإثيوبية تهدف بشكل واضح إلى تأكيد النفوذ الإثيوبي في المنطقة ، و عرقلة الانتشار المخطّط للقوات المصرية.
وفي تصعيد خطير للأزمة، اتُّهمت القوات الإثيوبية “بالتعاون” مع حركة الشباب المصنّفة انّها “إرهابية” ، وهو ما يمثل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي، ويهدد بإشعال حرب إقليمية يصعب التنبؤ بمآلاتها، خاصة بعد أن دخل الصراع الإثيوبي- الصومالي مرحلة جديدة من التصعيد، حيث ردت مقديشو على التحركات العسكرية الإثيوبية بتهديدات مباشرة “بفتح قنوات” مع الميليشيات والجماعات الانفصالية الأثيوبية .
ومن المعلوم أن اثيوبيا تواجه تحديات أمنية متزايدة على حدودها الشاسعة مع دول القرن الأفريقي: الصومال، جيبوتي، ارتريا، السودان، جنوب السودان، وكينيا. ففي الشمال، تتهم أديس أبابا ” أرتريا” بدعم ميليشيا “فانو أمهرة” الموجودة على الحدود الإثيوبية السودانية، الأمر الذي يزيد من حدّة التوتر بين البلدين. وتأتي زيارة المسؤولين المصريين إلى أرتريا، وتركيزهم على الأمن البحري في البحر الأحمر، لتزيد من مخاوف إثيوبيا بشأن التحالفات الإقليمية المتشكلة ضدها . كذلك تشهد الحدود مع كينيا توترات متصاعدة ومتأججة، بينما تسعى الصومال دائما لاستغلال الأوضاع الداخلية المعقدة في البلاد لدعم الجماعات المعارضة.
ويزداد الوضع صعوبة وخطورة مع ارسال مصر شحنة من الأسلحة الى الصومال، واتهام اثيوبيا مصر بتغذية النزاعات الداخلية من خلال دعم حركات التحرير المناوئة لاثيوبيا.
ومع هذا، تستمر أثيوبيا في التصعيد ، عن طريق إرسال أسلحة إلى منطقة بونتلاند أو “أرض البنط “، شمال شرق الصومال ، وهو إقليم غير مستقل عن الصومال لكنه يتمتع بحكم ذاتي ويعتبر “معقلا للقراصنة” ؛ فتكون بذلك اثيوبيا قد فتحت باباً واسعاً أمام القراصنة، الذين سيجدون في أرض البنط ملاذاً آمناً ومصادراً للأسلحة، مما يشكل تهديداً للملاحة الدولية في البحر الأحمر وقناة السويس.
دوافع اثيوبيا
ويبقى السؤال: لماذا أقدمت اثيوبيا اليوم على فتح ثلاث جبهات( في صومايلاند، و غيدو ، وأرض البنط) ، علمًا أنّها ضعيفة واقتصادها منهار، وتخضع للعقوبات، وهي محطّمة في الداخل ومفلِسة، ولها مشاكل تطال سمعتها الخارجية؟
لا شكّ أنّ ما يحرّك سياسات أبي أحمد الخارجية هي الاعتبارات الداخليّة الملحّة، وأهمّها تراجع شعبيته المتزايد بسبب الحروب المتتالية التي خاضها ضد أبرز العرقيات الإثيوبية. فالحروب التي شنتها حكومته على أورومو وتيجراي وأمهرة، بالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية الخانقة أضعفت قبضته على السلطة. لذلك يسعى أبو أحمد من خلال المشاريع القومية، مثل مشروع سد النهضة، والآن مشروع الحصول على منفذ بحري ، إلى حشد الدعم الشعبي وتشتيت الانتباه عن المشاكل الداخلية، لتكريسه زعيماً” لبلاده.
من ناحية ثانية، تثير تحركات إثيوبيا العسكرية تساؤلات حول الدوافع الحقيقية وراء هذه التصعيدات، والتي يرجّح البعض أن يكون لإسرائيل دور كبير في تشجيعها، وذلك بهدف تأمين منفذ بحري إثيوبي يمكن لاسرائيل استخدامه في مواجهة التهديدات الإيرانية في البحر الأحمر.
ومن المؤكد أنّ اثيوبيا تسعى إلى تحقيق عدة أهداف استراتيجية، أبرزها حصولها على ميناء سيادي وتقوية مكانتها الإقليمية، تجزئة الصومال والحؤول دون وحدتها ، والأهم من هذا وذاك، تقويض أمن مصر، التي تعتبرها “خصما اقليميا”، أو كما أكّد رئيس قوات الدفاع الوطني الإثيوبية، بيرهانو جولا ” أعداء أثيوبيا التاريخيين” .
ديبلوماسيّة تركيا
وفي ظل التنافس الإقليمي المتزايد، أعلنت تركيا عن وقف إمدادات الطائرات المسيرة إلى إثيوبيا، ووقعت بالمقابل اتفاقية تعاون دفاعي مع الصومال، مما يعزز نفوذها العسكري في المنطقة، وبعد تأجيل جولة المفاوضات من الثاني الى السابع عشر من ايلول ، أعلنت أنقرة لاحقاً تأجيلها المفاوضات إلى أجل غير مسمى، الأمر الذي ويثير تساؤلات حول جدية جهود تركيا الدبلوماسية، في ظل التوترات الإقليمية المتصاعدة، وتدخل قوى إقليمية أخرى مثل مصر.
تحول السياسة الأمريكية في القرن الأفريقي
وشهدت السياسة الأمريكية تجاه الصومال تحولا جوهريا ملحوظاً، حيث أعلنت واشنطن عن دعمها لوحدة الأراضي الصومالية، مدفوعة بقلقها المتزايد من تهديدات الحوثيين للملاحة البحرية في باب المندب من جهة ، والتنافس الإقليمي المتصاعد مع قوى مثل الصين جرّاء توسّعها خاصة في جيبوتي والصومال من جهة أخرى، ورغبة واشنطن في تأمين مصالحها الاستراتيجية قبل كل شيء . وقد زادت واشنطن من دعمها للصومال وكينيا، وأرسلت تمويلا بقيمة 1.3 مليار دولارا للجيش المصري، لما تعتبره ضرورة لدعم الاستقرار الإقليمي.
في الختام، انّ الصراع الدائر بين إثيوبيا والصومال يهدد بتفجير حرب إقليمية واسعة النطاق ، مستدامة ومفتوحة قد تحول البحر الأحمر إلى ساحة معارك طاحنة ، وتدفع المنطقة بأكملها إلى حافة الهاوية…
موقع سفير الشمال الإلكتروني