هذه صفحة مجهولة أو مجهلة في تاريخ الفن العربي، شأن عشرات الصفحات التي قادتها الأهواء نحو دياجير النسيان، وأسدلت عليها الدوافع السياسية – ربما – ستائر الحجب والتعتيم. واقعة عمرها الآن ست وسبعون سنة، وبطلتها أو قُل ضحيتها هي القضية الفلسطينية، لا لشيء إلا لأن أصحاب القرار في مصر بعد ثورة يوليو ارتأوا أن الحجب هو القرار الأصوب، فماذا تقول سطور هذه الصفحة المجهولة؟في السابع من نيسان/إبريل 1947 في سينما الكورسال بالقاهرة، قدم يوسف وهبي - مؤلفاً ومخرجاً – من إنتاج الأخوين نحاس، فيلماً بعنوان "شادية الوادي" وهو عبارة عن معالجة لأسطورة "بيجماليون"، عارضاً لحكاية الفلاحة بائعة الفجل التي يصنع منها الفنان المشهور نجمة ناجحة وسيدة مجتمع معروفة. الفيلم تخلله استعراض لا علاقة له لا بالقصة ولا بالأحداث عنوانه "أوبرا الأسيرة" أو"مأساة فلسطين" من تأليف شاعر الشباب أحمد رامي وألحان الموسيقار رياض السنباطي وغناء ليلى مراد وكارم محمود وآخرين، في خطوة أظن أن الانتباه إليها اكتشاف، وأعتقد أن القراءة في مدلولها مفاجأة.تدور فكرة الأوبريت حول الفتى الجريح الذي يخبر ابنة عمه بأن قوماً من الغرب جاءوا وأعملوا فيه وفي شعبه القتل والقهر، ويستنهضها كي تطلب النجدة من أخوته العرب لإنقاذ فلسطين من العصابات الصهيونية، فتطمئنه الفتاة بأن نخوة العرب وشجاعتهم لن تقبل الضيم، وحتماً فإن الجيوش العربية سوف تلبي النداء من أجل نصرة فلسطين. ثم تبدأ الفتاة في كل مقطع في مخاطبة جيوش الحجاز والعراق والشام ووادي النيل كي ينصروا فلسطين الأسيرة، وينتهي الأوبريت وقد تهللت أسارير الفتاة وهي تنشد: "يا فرحتي بانطلاقي من بعد أسري وذلي. دام اتحاد رفاقي وعاش خل لخل. قد ألفت ما بيننا آمالنا مهما افترقنا بين أوطان ودين. اليوم صرنا وحدة عربية قامت على عزم الرجال المخلصين".
(ليلى مراد مع أنور وجدي)واستعراض"مأساة فلسطين" يسترعي الانتباه في كثير من الأمور:أولاً: أدى ظهور اسم الملك فاروق ملك مصر والسودان في الاستعراض من خلال البيت الذي يقول "شعب فاروق العظيم قدموا عون الكريم" إلى حجب هذا الاستعراض وحذفه من شريط الفيلم بعد قيام الضباط الأحرار بثورتهم في يوليو 1952، ثم امتدت لعنة هذا الأوبريت أو الاستعراض إلى الفيلم ذاته الذي اختفى تماماً من شاشات الفضائيات حتى أنك لا تستطيع أن تجد له نسخة عرض في أي مكان، وقد تم هذا الحذف أو التشويه جرياً على العادة السيئة التي دأب عليها المسؤولون في ذلك الوقت التي وصلت إلى حد تظليل صورة الملك السابق في أي لقطة عابرة داخل أي فيلم سينمائي، ومن ثم يمكن وصف هذا الاستعراض بالنادر. أيضاً لم يكن بالإمكان التعامل مع هذا الاستعراض بحذف مقطع الملك فاروق فقط وعرض بقية الاستعراض على غرار ما حدث في أغنية "الفن" التي كتبها صالح جودت ولحنها محمد عبد الوهاب وتغنت بها ليلى مراد أيضاً، ضمن أحداث فيلم "الماضي المجهول" من إخراج أحمد سالم سنة 1946، لأن هذا الجزء من الاستعراض أو النشيد كان يمثل الدور المصري في الدفاع عن فلسطين، وليس من المنطق أن يستعرض فيلم من إنتاج مصري أدوار كل الدول العربية في تلك الأزمة ويغفل الدور المصري فيها، ومن هنا تعرض هذا العمل لظلم واضح رغم أهمية التوقيت الذي ظهر فيه.
ثانياً: من أين تأتي أهمية توقيت تقديم هذا الاستعراض؟ الثابت وفق كل المصادر أن عرض فيلم "شادية الوادي" للمرة الأولى كان في سينما الكورسال في السابع من نيسان/إبريل 1947، وهذا معناه أن ظهور أوبرا الأسيرة أو استعراض "مأساة فلسطين" ضمن أحداث الفيلم كان في توقيت مبكر من الأحداث المتصاعدة لنكبة 1948، بل أنه كان سابقاً على اتجاه الدول العربية لإرسال جيوشها النظامية إلى فلسطين الذي نوقش في اجتماع بيروت المنعقد في الفترة من 7 إلى 15 تشرين الأول/أكتوبر 1947 وصدور قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1947 الخاص بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود، ورفض الدول العربية له ومساعدة وإمداد المتطوعين بالسلاح، ثم قرار الجامعة العربية في 12 نيسان/إبريل 1948 بإرسال الجيوش النظامية إلى فلسطين تحت قيادة أردنية بمجرد انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين ليلة 15 أيار/مايو 1948. ورغم أن النكبة الكبرى العام 1948 كانت لها مقدماتها، وأن الأحداث كانت آخذة في التسارع منذ وعد بلفور العام 1917، فإن استعراض "مأساة فلسطين" أو اوبرا الأسيرة ضمن أحداث فيلم "شادية الوادي"، كان أول عمل فني يضع يده على الجرح الفلسطيني بل ويتنبأ بما سيحدث من دخول القوات العربية – متطوعين ونظاميين – إلى فلسطين قبل حدوث ذلك بأشهر.
ثالثاً: أهمية هذا العمل بالنسبة إلى ليلى مراد نفسها والذي يصل بالفعل إلى حد المفاجأة أن الفيلم المعروض في نيسان 1947 كان سابقاً على الإشهار الرسمي لإسلام ليلى مراد الذي تم في كانون الأول/ ديسمبر من العام نفسه وفق تاريخ وثيقة إشهار إسلامها. وهذا معناه ببساطة ووضوح أنه حينما قامت ليلى مراد بغناء هذا العمل الذي يهاجم عصابات اليهود ويدعو إلى نصرة عرب فلسطين قبل أشهر من وقوع النكبة الكبرى، لم يكن أحد يعلم بإسلامها الشفهي، وإنما كان الجميع يتعاملون معها على أنها يهودية ربما بمن فيهم أسرة الفيلم. وبما أن عرض فيلم "شادية الوادي" كان في نيسان 1947 فهذا معناه أن تصويره قد تم في الأشهر الأخيرة من العام 1946 التي شهدت إسلامها الشفهي، فهل من المحتمل أن تكون قد هاجمت العصابات اليهودية في فلسطين وهي لا تزال على يهوديتها؟ جائز جداً، لكن الأمر المؤكد أنها امتلكت الشجاعة والجرأة وفعلت ذلك وجمهورها العريض يعلم أنها يهودية لأبوين يهوديين، ما يعني - في كل الأحوال - أن وطنيتها قد تغلبت علي ديانتها، وأن انتماءها سبق عقيدتها، وأن مصريتها هي التي انتصرت في النهاية. وما يعزز هذا اليقين أن ليلى مراد كانت قد فعلت شيئاً مشابها العام 1945 حينما استهلت فيلم "ليلى بنت الفقراء" بأغنية بعنوان "يا ست نظرة" من كلمات محمود بيرم التونسي وألحان الشيخ زكريا أحمد، غنتها في مناسبة الاحتفال بمولد السيدة زينب حسب سياق الأحداث في الفيلم الذي أخرجه أنور وجدي، وفي هذه الأغنية تنشد ليلي وتقول: "يا بنت بنت نبينا وأخت الحسين الغالي مدد يا سيدة. عيدك ده فرحة ونصرة وعيد الإسلام"، رغم أنها لم تكن قد تحولت بعد عن اليهودية واعتنقت الإسلام، بل أنها لم تكن حتي قد قررت الاقتران بأنور وجدي الذي قربها – بلا شك – خطوة نحو الدين الإسلامي الذي دخلت فيه شفهياً بعد هذا الفيلم بعام، ورسمياً بعده بعامين.