أطلقت "جمعيّة ذاكرة إهدن-زغرتا" المؤسّسة حديثاً، نشاطها الرسميّ في احتفال أقيم سطيحة مبنى "الكبرى" الأثريّ في إهدن، وذلك بالتعاون مع بلديّة زغرتا-إهدن ومع مركز "فينيكس" للدراسات اللبنانيّة في جامعة الروح القدس- الكسليك. كما دشّنت موقعها الإلكتروني الخاص www.zakeratehdenzgharta.com.
انطلاق فكرة الجمعية
في البداية كلمة ترحيب من عريفة الاحتفال الآنسة مريم قبشي، ثم كلمة العضو المؤسّس في الجمعية سميح زعتر، الذي انطلق في كلمته من المفهوم الشهير القائل بأنّ ذاكرة الإنسان الجماعيّة هي الوسيلة الناجعة لتماسك المجتمع وصموده وبقائه. فـ"الذاكرة هي العمود الفقري لهوّية الإنسان"، وهي التي تربطه بماضيه فتثبته في أرضه لأنها صلة الوصل بتاريخنا الذي منه نغرف ليكون لنا مستقبَلٌ.
انطلاقاً من هذا المفهوم تأسّست جمعية "ذاكرة إهدن-زغرتا" على أن تكون مهمّتها جمع موادّ هذه الذاكرة والحفاظ عليها "كأمانةٍ تُنقل سليمة إلى الأجيال القادمة".
واستعرض زعتر كيفية تولُّد فكرة إنشاء الجمعية عبر ابن البلدة الوزير السابق بسّام يمين. كان كلما زار البلدة برفقة ابنته يلتقي أصحابه ورفاق طفولته وشبابه ويستعيد معهم أخبار الماضي على مسمعها، إلى أن سألته ابنته يوماً: "لماذا لا أعرف شيئاً عن هذه القصص يا أبي؟"، فلمعت الفكرة في رأسه وطرحها على بعض أصحابه من الناشطين في المجتمع الزغرتاوي، وهكذا اتُّخذ القرار بتأسيس هذه الجمعية التي ستتولى العمل على حفظ ذاكرة إهدن- زغرتا الغنيّة، وخصوصاً عبر تسجيل وتدوين الذاكرة أو "التاريخ الشفهيّ" (Oral History). ثم شرح زعتر ما يرمز إليه شعار الجمعية الذي صمّمه الفنانان بولس خوّام وأنطوان العلم، ليختم بالقول إنّ "اليوم هو ذاكرة الغد، والغد هو ذاكرة ما يليه، وتلك هي سنّة الحياة".
المنتدون بين الذاكرة والصورة والتقنيّة
ثمّ كانت كلمة من الدكتور عصام خليفة تحت عنوان "الذاكرة وعلاقتها بالهوية"، ركّز فيها على دور الذاكرة في حفظ الهوية الوطنيّة، لافتاً إلى ما يزخر به تاريخ زغرتا إهدن من نتاجات وإنجازات على يد قامات كبيرة من رجالاتها، بدءاً من المكرّم البطريرك اسطفان الدويهي، وبطل لبنان يوسف بك كرم، وصولاً إلى كبار رجالات الفكر والسياسة من نواب ووزراء، وقد أعطت زغرتا-إهدن رئيسين للجمهوريّة. وهؤلاء جميعاً أغنوا الفكر الإنساني، وغذّوا التاريخ، واتّخذوا المواقف الوطنية الصلبة في وجه كلّ مغتصب ومحتلّ. وربط خليفة ما اورده في كلمته بكلّ المحاولات الجارية منذ بضع سنوات بغية طمس ذاكرة لبنان تمهيداً للسيطرة على الأرض ومحو التاريخ، ومن هنا أهمّية ما تقوم به "جمعية ذاكرة إهدن-زغرتا" التي لا بدّ لها في عملها من تثبيت هذه الذاكرة ومن الحفاظ على الإرث الثمين، ليس للبقاء في التاريخ، بل من أجل الوطن ومستقبل هذا الوطن.
ثمّ تكلّم الباحث محسن إ. يمّين تحت عنوان "الصورة كخادمة الذاكرة، زغرتا-إهدن نموذجاً"، ليؤكّد أنّ الصورة الفوتوغرافية هي أفضل وسيلة "لتجميد اندفاعة سير الزمن"، ومن هنا كان اهتمامه بحفظ هذه الذاكرة الفوتوغرافية وأرشفتها بما أمكن من استوديوهات المصوّرين الذين اشتُهروا في المنطقة، مثل كميل القارح (1897-1952) ويرتشان دنكيكيان (1899-1983) وغيرهما، لافتاً إلى أنّه لا ينظر إلى جمالية الصورة وحسب، بل يعمل على استقرائها "كمجوعة رسائل من الماضي تستحقّ أن تُفَضّ، وتُقرأ". وقد عمد في كلمته إلى استعراض ما طالعه في تلك الصور عن ماضي إهدن الجميل على الأخصّ، بطبيعتها وعاداتها ونشاطاتها الترفيهيّة وغيرها، وهي التي كانت موئلاً صيفيّاً محبوباً ومطلوباً، ولها "عشّاقها" ليس بين أبناء زغرتا وحسب، بل عند أبناء الجوار، من طرابلس وغيرها. وقدّ شدّد يمين في كلمته على "أنّه إذا كان العالم بأسره قد هوى بين أحضان العولمة فإنّ شيئاً لا ينبغي أن يصرف إنتباهنا عن هويّتنا، وتراثنا، وثقافتنا، وعن كلّ ما يُعطينا الشعور بالإنتماء إلى المكان، إلى منطقة جغرافيّة معيّنة، وإلى خلفيّة تاريخيّة محدّدة".
وأخيراً تحت عنوان "تقنيات حفظ الذاكرة وأهمّيتها للأجيال القادمة" تحدّث كارلوس أبي يونس باسم مركز "فينيكس للدراسات اللبنانيّة في جامعة الروح القدس-الكسليك"، مرحّباً بالتعاون مع "جمعية ذاكرة إهدن-زغرتا"، ثمّ تناول في كلمة مقتضبة أهمّية حفظ الذاكرة، شارحاً الطرق والوسائل التقنيّة الحديثة المعتمدة في مركز "فينيكس" لحفظ الوثائق والصور من التلف، وموضحاً كيفية العناية بها والحفاظ عليها سليمة.
بعد الندوة افتُتِح معرض الصور الفوتوغرافية في القاعة الأرضية من مبنى الكبرى التاريخيّ، وهو من إعداد محسن إ. يمين نفسه، وقد اكتشف الحضور في الصور المعروضة مصداقاً عمّا ذكره يمين في كلمته عن دور الصورة الفوتوغرافية في إعطاء فكرة عن طبيعة المجتمع وأنماط حياته ومظاهر تغيّره وتطوّره.
الأهداف والخطّة والموضوعات
وبعد الاحتفال كان لنا حديث مع سميح زعتر، صاحب المحترف الفوتوغرافي الناشط في زغرتا، والعضو المؤسّس في جمعية "ذاكرة اهدن-زغرتا"، الذي أكّد أن أهداف الجمعية تتمثّل في جمع وحفظ الموادّ الأساسيّة والثريّة من ذاكرة إهدن، المبعثرة بشكلٍ ما، وذلك لكي تعالج بالشكل المناسب وتسلَّم للأجيال القادمة لأننا نعتبر أنّ هذه الذاكرة هي "العمود الفقري للهويّة الزغرتاوية" (كما في كلّ المجتمعات)، كما أنّها بالتأكيد جزء من الذاكرة الوطنيّة في نواحٍ كثيرة منها. ولا بدّ في مرحلة لاحقة، وقريبة، من توسيع العمل انفتاحاً على منطقة زغرتا الزاوية لأنّ الارتباط عضوي بين كلّ أبناء هذه المنطقة.
أمّا برنامج عمل الجمعيّة أو الخطّة العمليّة، فإنه يقضي أوّلاً بالتركيز على جمع ما يُعرف بالتاريخ الشفهي (oral history)، وقد بدأنا بتسجيلات صوتيّة مكثّفة مع أناس مسنّين، ما تزال ذاكرتهم "حاضرة"، لينقلوا إلى الأجيال ما ليس مكتوباً أو مدوّناً، وليرووا عن تجاربهم في الحياة والمجتمع الزغرتاوية. ويقوم دورنا بعدها على تفريغها وتدوينها بالشكل المناسب، ثم ننشرها على الموقع لكي تصبح في متناول كلّ من يريد مراجعتها للاطّلاع عليه أو لدراستها.
ومن ناحية أخرى سيصار إلى جمع كل ما هو مرئي ومسموع، من صور وتسجيلات وفيديوهات وأفلام سينمائيّة، إضافة إلى كل وثيقة مكتوبة أو مصوّرة ولها علاقة بالذاكرة، لتُنزل على الموقع وتُصبِح في متناول كل الأفراد. ويؤكّد زعتر: إنّ كلّ ما نصل إليه ونحصل عليه هو ملك الزغرتاويين، لأن الذاكرة الجماعية هي ملك الأفراد كما هي ملك المجتمع على حدٍّ سواء، فليس مسموحاً، في المبدأ، الاستئثار بأي وثيقة أو مستند أو أي منتَج تاريخيّ".
ومن ناحية الموضوعات ستهتم الجمعيّة بكل ما له علاقة بالذاكرة، في مختلف المجالات، السياسيّة منها، والفنّيّة والأدبيّة والشعريّة والمسرحيّة، المهم أنْ يكون الموضوع جزءاً من الذاكرة.
أمّا عن الدراسات الخاصّة بالموضوع، فهي تدخل تحت عنوان خطّة العمل كما تحت عنوان الموضوعات. كموضوع، فإنّ كلّ دراسة عن زغرتا-إهدن، سواء أكانت دراسات جامعية أم من مصادر محلّية خاصّة أو غربيّة (مستشرقون)، ستحاول الجمعية الحصول عليها وعرضها على موقعها أمام عموم الناس.
أما الدراسات التي يمكن أن تُجرى لاحقاً، فإنها تدخل ضمن خطّة العمل، والجمعية على أتمّ الاستعداد لدعهما كما يؤكّد زعتر: "كما رأينا، نحن وقّعنا ورقة تفاهم مع مركز "فينيكس" في جامعة الروح االقدس-الكسليك، وبالتالي سيكون بإمكان من يرغب في تحقق دراسة أكاديميّة عن زغرتا-الزاوية أن يحصل على الدعم المطلوب والممكن من جهتنا ومن البلديّة بطبيعة الحال، ومن الجامعة المتعاونة معنا".التمويل والتمنّيات
وسألنا سميح زعتر عن وسائل التمويل، فشدّد أوّلاً على أنّ جمعيتهم هي "جمعيّة لا تبغي الربح" (Non-profit association)، ثم أكّد أنّنا "بدأنا العمل متّكلين في هذه المرحلة الأوّلية على صندوق دعم كوّنّاه محلّياً من عدة مصادر، وذلك بالطبع لبدايةٍ متواضعة. لكن لاحقاً، بعد أن نثبت في عملنا وننطلق فيه خصوصاً عبر الموقع الالكتروني، وإذْ حصلنا رسمياً على علم وخبر كجمعيّة، يمكن أن نتقدّم، وبحسب البرامج، بطلبات مساعدة من جهات داعمة، سواء أكانت محلّية أو أجنبية، لكي نتمكّن من النهوض بالمهمات التي رسمناها لجمعيتنا. لكن في المرحلة الحالية، نحن مكتفون بالصندوق المحلّي".
وقد تمنّى زعتر، باسم الجمعيّة، على المجتمع الأهليّ الزغرتاويّ، ان يقدمّ الدعم اللازم، ليس ماليّاً فقط، بل عمليّاً. وفي هذا السياق تُوَجِّه الجمعيّة نداء مفتوحاً (open call) إلى الجمهور الزغرتاويّ، أوّلاً لكي يدخل ويتعرّف على الموقع، ثمّ ليشارك بكلّ موجوداته، أي ما يملكه من مواد تخصّ الذاكرة، شخصيّاً أو عائليّاً، في الوطن أو في الاغتراب، فيقدمها للجمعية التي ستأخذ نسخة منها وتعالجها لتحافظ عليها من الفساد والتلف، وتضعها عبر الموقع في تصرّف كلّ زغرتاويّ، على أن تُعاد إليه النسخة الأساسية، إلا إذا أحبّ أن يهبها إلى جمعية الذاكرة، لأنها ستكون قادرة أن تحافظ عليها تقنياً كما سمعنا في كلمة الأستاذ أبي يونس، ولأنّ الذاكرة هي ملك كلّ زغرتاوي.
في هذا الزمن المضطرب سياسيّاً والمسطَّح ثقافيّاً وفنّياً، وفي زمن جهل الكثيرين ما الأسس الفكرية والأنسانيّة التي تقوم عليها فكرة الأوطان، من حيث الموروث "المُفيد" المتراكم على مرّ العصور، يبدو لنا مشروع "جميعة ذاكرة إهدن-زغرتا" مشروعاً واعداً من حيث العمل على تعريف المواطن "الزغرتاوي-اللبنانيّ" بذاته الاجتماعية عبر الذاكرة المنقولة، ومن حيث إذكاء الشعور الوطنيّ وتشجيع المواطنين على التمثّل بالسلف "الصالح" إنتاجاً فكرياً وإبداعاً فنّياً وإسهاماً اجتماعيّاً وسياسيّاً، لتزداد المنطقة والوطن ثراءً فوق ثراء، ولكي يثبت الإنسان في أرضه عبر تعرّفه بجذوره واطّلاعه على تاريخ منطقته الذي ما يزال مغموراً.