عندما توجه الرئیس المكلف مصطفى أدیب الى قصر بعبدا یوم الإثنین الماضي، كان من المفترض أنه یتوجه لتقدیم تشكیلة حكومیة (حكومة إختصاصیین مصغرة من ١٤ وزیرا)، ولكنه لم یفعل بناء على إتصال من الفرنسیین ونصیحة یجري التعامل معھا من قبل الثنائي الشیعي ورئیس الجمھوریة على أنھا قُدمت له بأن یضع جانبا تشكیلة حكومیة حكومة أمر واقع لا یمكن أن تمر في قصر بعبدا أولا وفي مجلس النواب ثانیا...
وعندما توجه الرئیس المكلف عصر أمس الخمیس الى قصر بعبدا بعد تأجیل لأكثر من مرة، كان من المفترض أنه یتوجه لتلاوة بیان الإعتذار و"فعل الندامة"، بعدما ـ وكما نُقل عنه ـ لم تعد المھمة التي یقوم بھا والمقاربة الجاریة للحكومة الجدیدة تتوافق مع روحیة التفاھم الأساسي على حكومة إختصاصیین غیر سیاسیة... ولكن أدیب لم یفعلھا ولم یعتذر بعدما تلقى إتصالا من الفرنسیین ونصیحة بالتریث إفساحا في المجال أمام إتصالات بدأت مع الثنائي الشیعي لحل عقدة وزارة المال... واضح في الحالین والمرتین، أن الفرنسیین لا یریدون تصعید الموقف ولا المواجھة مع الثنائي الشیعي، وإنما یمیلون بوضوح الى تھدئة اللعبة والدفع مجددا باتجاه تشكیل الحكومة وإن إستدعى الأمر تمدید المھلة المحددة للتألیف، وتف ّھم الموقف الشیعي وأخذه في الإعتبار.
واضح أن المبادرة الفرنسیة "سقطت" في الوحول والزواریب اللبنانیة وتعثرت عند البند الأول، الحكومة الجدیدة "الإصلاحیة"، وفي خطوتھا الأولى، بمجرد إنتقالھا من مبادرة إنسانیة الى مبادرة سیاسیة... وواضح أنھا أصبحت في "مأزق". فالحكومة التي طرحت لتكون بدایة مخرج للأزمة تصبح مدخلا الى أزمة جدیدة أكثر تعقیدا، والحكومة التي تختصر كل الوضع حالیا وباتت في أساس المبادرة الفرنسیة ومقیاسا لنجاحھا أو فشلھا، تواجه مخاطر جدیة بعدما تبیّن أن حسابات "الحقل الفرنسي" لم تتطابق مع حسابات "البیدر الشیعي"، وأن أخطاء فرنسیة حصلت في التصرف والتقدیر وفي عدم فھم كافٍ للتوازنات والتعقیدات اللبنانیة الداخلیة، تقابلھا حالة من التصعید والتشنج عند الطرف الشیعي لم تكن متوقعة ولا محسوبة، إستنادا الى ما أظھره "الثنائي" من مرونة وانفتاح على المبادرة الفرنسیة عندما كانت في مرحلة الإنطلاق... فكان من الطبیعي أن یطرح ھذا السؤال الملح عن أسباب "التشدد الشیعي" الذي وصل الى حد تھدید المبادرة الفرنسیة والتسبب بإفشالھا وتحمّل التبعات، بما في ذلك خسارة الموقف الفرنسي المتمایز و"المتفھم"، ونشوء وضع أكثر خطورة في لبنان من جراء تفاقم الإنھیار الاقتصادي المالي الاجتماعي، واھتزاز
الوضع الأمني.
التشدد الشیعي یمكن أن یُوضع في ثلاثة أطر رئیسیة:
- الإطار الضیّق والمباشر المتصل بوزارة المال وما تعنیه من نقطة إرتكاز وشراكة في السلطة التنفیذیة واستحواذ عملي لموقع ثابت أساسي في الحكم (التوقیع الملزم لوزیر المال على كل المراسیم)، وفي إطار السعي الحثیث عند الشیعة الى تحسین حصتھم في نظام الطائف الذي لم یعد متناسبا مع حجمھم وقوتھم المتعاظمة عسكریا ودیموغرافیا واقتصادیا.
- الإطار السیاسي المتصل بحسابات وتطورات المرحلة، وحیث یواجھ حزب الله خصوصا وضعا ضاغطا یحاصره من الخارج والداخل ویحشره في زاویة الخیارات الصعبة، بحیث یفتقد أكثر فأكثر الى ھامش التنازلات ولا یحتمل مزیدا من الخسائر والتراجعات. وخسارته لمعركة الحكومة الحالیة بالكامل، وبعدما بات "یقاتل" على "وزارة (ولیس على رئیس الوزراء ولا على الثلث المعطل)، یعني بدایة مسار تراجعي ومسلسل التنازلات وعدم تمكنه من ربح أي معركة لاحقا سواء أكانت "نیابیة" أم "رئاسیة"...
- الإطار الأشمل المتصل بالبعد الإقلیمي وحسابات إیران في إطار صراعھا المفتوح مع الولایات المتحدة... فالمسألة عند الحزب لیست مسألة مقعد وزاري وإنما مسألة توازنات ومكاسب وقواعد لعبة معّرضة "للكسر والتعدیل"...
والمسألة أیضا مسألة "معادلة" إقلیمیة یشكل حزب الله جزءا منھا، سواء إتجھت الى تسویة أو مواجھة. والمرحلة الآن لیست مرحلة تنازلات وإنما مرحلة تجمیع أوراق (كما تفعل واشنطن مع الورقة الخلیجیة وتفعل طھران مع الورقة الفلسطینیة)... وإذا كان لا بد من تنازلات وفي مرحلة لاحقة فإنھا لا تكون للفرنسیین وإنما للأمیركیین ولمصلحة إیران...
التشدد الشیعي "مفھوم" بغض النظر إذا كان مبررا أم خاطئا... و"التراخي" الفرنسي مفھوم أیضا عندما یُترجم في تمدید المھل وفي القبول بأن تكون وزارة المال للشیعة وبأن یكون الإسم منبثقا من الثنائي الشیعي للتوافق علیه...
وعندما یظھر المشھد وكأن التنازل الذي كان مطلوبا من الشیعة صار مطلوبا من الفرنسیین الذین أرادوا الحكومة لمھمة إنقاذ وصار ھمھم الآن إنقاذ الحكومة نفسھا، وصار تشكیل الحكومة إنجازا بمعزل عن قدراتھا الإصلاحیة المشكوك فیھا، من جراء ما أحاطھا من إلتباسات وإشكالات أفقدت المبادرة الفرنسیة زخمھا وتكاد أن تفقدھا مصداقیتھا...
المرونة الفرنسیة مفھومة لأن ماكرون وضع كل ثقله ورصیده ومصداقیته في لبنان وتورط ولم یعد بإمكانه التراجع... فسقوط حكومة أدیب یعني سقوط المبادرة الفرنسیة ومعھا مشروع العودة الفرنسیة الى الشرق الأوسط من الباب اللبناني، وحیث یشكل لبنان الورقة المتوسطیة الفرنكوفونیة الأقوى وربما الأوحد في ید فرنسا... وفرنسا لا تجد حرجا في تغییر القواعد التي قررتھا للحكومة الجدیدة، حتى لو بدا أن في الامر " ليّ ذراع وتنازل"، حتى لا تخسر كل شيء... یُضاف الى ذلك أن باریس التي تدرك خطورة وھشاشة الوضع اللبناني وقابلیته للإنھیار والإنفجار لا مصلحة لھا ولا رغبة ولا قدرة على خسارته وتركه لمصیره ورؤیته یزول وینتھي... ویُضاف الى ھذا "الإلتزام" الاستراتیجي حسابات براغماتیة تقول إن مصلحة فرنسا التواصل والتعاون مع حزب الله الأقوى على الأرض، خصوصا في الجنوب حیث "الیونیفیل"، والممسك في یده أوراق الترسیم والنفط والحدود مع إسرائیل ومع سوریا... كما تحتاج فرنسا الى إیران عندما تفكر باستعادة دورھا ومصالحھا في العراق ولاحقا في سوریا...
المشھد اللبناني یوحي أن المواجھة ھي فرنسیة ـ شیعیة، ولكن المواجھة الفعلیة الدائرة في المنطقة ویدفع لبنان ثمنھا، فیما في ذلك أزمته الحكومیة الراھنة، ھي مواجھة أمیركیة ـ إیرانیة تسجل سخونة متزایدة عند مشارف الانتخابات الرئاسیة الأمیركیة... في المنطقة، وحتى الانتخابات، لا حرب ولا مفاوضات، وفي لبنان حالیا لا تألیف... ولا إعتذار... ولا نعرف إذا كان ستُضاف لاء ثالثة "لا حكومة"...