لم يصدّق أحد حكايتنا ولمن استُعلنت ذراع الربّ.
قال لنا النجم إنّ الملوك لا يصبحون ملوكاً ما لم يولدوا من رحم العتمة، تلك التي لا تشبه إلّا العتمة. فيصبحون ملوكاً لا عروش لهم يعانقون جوع الفقراء في الليالي التي ترشح برداً وثعالب.
قال لنا النجم الملتمع مثل عيون أمّهاتنا وقال. ونحن تفرّسنا في النجم وصدّقناه. كذّبنا الحقيقة التي تنبعث من تفاصيل أيّامنا، وتتربّص بنا في الليالي الظلماء مثل أفعى. وصدّقنا الحلم المتراقص في نورانيّة الأفلاك، إذ لا أقوى من الأحلام حين تمتزج بالنور. صدّقنا النجم، وصدّقنا الحلم، وانطلقنا صوب الغرب.
أدركنا فلسطين الرومانيّة عند الغسق. كان الجنود ينتشرون في كلّ مكان وكأنّهم على موعد مع ثورة جديدة. وكانت رائحة الدم الجافّ في الحقول السمراء تختلط بطعم الصعتر والسمّاق وإكليل الجبل. قال النادل في النزل الذي قضينا فيه الليلة الفلسطينيّة الأولى إنّ هذه الأرض المرمية على قارعة الإمبراطوريّة المترامية مصابة بلوثة النسيان. فأهلها لم يتعلّموا شيئاً من الحروب. ثمّ أردف أنّ النجّارين في الجليل يستعدّون لموجة عنف جديدة. وقد كدّسوا في أقبيتهم المسكونة بالغبار والعناكب مئات الصلبان كي يعلّق عليها الجنود الثوّار الجدد. وقال إنّ الناس هنا يدركون أنّ الزمن إن هو إلّا فسحة بين حربين أو ثورتين. وحين خلدنا إلى النوم بعد تناول الحساء الساخن، كان النجم الذي لا يشبه النجوم يحرس ليلنا، ويسكب في أمداء الحقول، التي لم تنسَ بعد طعم الدم، ذبذباته الفضّيّة.
لكنّ النجم ما لبث أن غاب أيّاماً. وحين نجحنا أخيراً في مقابلة الملك، أرسلنا إلى قرية صغيرة تدعى بيت الخبز مع أنّ الخبز كان قليلاً في معاجن أهلها، ومصنوعاً من تنهّداتهم. هناك أدركنا أنّ التنهّد الكثير لا يصنع سوى الخبز القليل. وفهمنا أنّ ملوك هذه الأرض المجروحة بالنسيان قد أصيبوا أيضاً بلوثة النسيان. فنسوا أنّ الله ينصّب الملوك كي يزهر العدل قبلما تزهر الحقول. فإذا انصرف الملوك إلى نزواتهم وأهملوا العدل، ضاقت الأرض بتنهّدات الناس، وغار الخبز في معاجنهم.
في الليلة التي عثرنا فيها على الطفل، كانت جيادنا تعبة. وكانت العتمة كثيفةً مثل بحر قزوين، والبرد يلسع جلدنا على الرغم من أنّ الأرض تستعدّ لاستقبال الربيع. كنّا حيارى مثل غيمة تائهة، صامتين مثل حجارة برسيبوليس، حزانى مثل الصفصاف. لكنّ النجم عاد كي يختطفنا من يأسنا، ومن دوراننا في متاهة البحث عن الحلم الهارب. انتصب النجم فوق البيت مثل سارية، وكلّمنا. كان صوته الملتبس خافتاً مثل مرور فراشة. لكنّنا سمعناه. أومأ إلينا بأن ندخل البيت، فدخلنا. أشار علينا بألّا ننسى الهدايا، فاصطحبناها معنا. وكانت الأمّ في انتظارنا تحتضن الطفل، وتتكّئ على تعجّبها كمن يتّكئ على جذع نخلة. أوعز إلينا النجم أن نسجد للطفل، فسجدنا. ثمّ أخرجنا هدايانا ووضعناها في زاوية الدار. لم تنبس الأمّ التي احترفت الصمت ببنت شفة. فتغلّف الصمت بالصمت وغلّف الأشياء كلّها، البيت والهدايا والجياد والعتمة. حتّى النجم عاد لا يتكلّم. فرجعنا إلى النزل ذي الستائر الرثّة، وخلدنا إلى النوم، وكلّ منّا يقلّب الأفكار في قلبه. لكنّ الله أوعز إلى أحدنا في حلم ألّا نرجع إلى أورشليم كي نقابل الملك، بل أن نمتطي الأفراس صوب المشرق على جناح السرعة. فانطلقنا في الغد والنجوم لم تطفئ أنوارها بعد. وكان النجم العظيم يقودنا إلى طريق أخرى.
لم يصدّق أحد حكايتنا كأنّما خرجنا من التاريخ. لم يصدّق أحد قصّة النجم الذي يلتمع ويتكلّم ويحلم ويسافر. أمّا الملوك، فما زالوا يقتلون الأطفال في فلسطين وفي بلاد فارس. لكنّ الله أنقذ الطفل من براثن الجلاّد. وحين اشتدّ عوده، أوعز إليه أن يموت مصلوباً على تلّة عارية خارج الأسوار. فصار الطفل أوّل ملك في التاريخ يتعرّش على صليب الموت، ويخترع للبشر ضروباً من الحبّ يعيشون بها إذا هم أصغوا إلى دندنات السماء.
منذئذٍ والله يسكن أحياناً في خبز الفقراء. ومنذئذٍ والحكاية تتوهّج…