اعتمد جان جبّور في كتابه الشرق المُتخيَّل في الخطاب الغربيّ، مجموعة من أمَّهات النتاج الأدبيّ الفرنسيّ على مدى عشرة قرون، من القرن الحادي عشر وحتى القرن الحادي والعشرين، ليستخرج منها العناصر الفكرية والنفسيّة التي كوّنت النظرة الغربيّة إلى الشرق (وهنا الفرنسيّة تحديداً)، أو بمعنى آخر نظرة المسيحيّين الغربيّين السلبيّة إلى الإسلام والمسلمين الشرقيّين عموماً، حتّى وإن تخلّل المؤلّفات، والدراسة طبعاً، محاولات تعميم هذه النظرة على سائر الطوائف والجماعات الشرقيّة (المسيحيّون، الأتراك). وقد اشتمل الكتاب على ثمانية عشر فصلاً موزَّعة على أربعة أبواب، تناولت بحسب عناوينها ستّة عشر كتاباً ومؤلّفاً أساسيّاً، ناهيك من ذكر بعض المؤلفات الثانوية ذات الصلة بالموضوع أيضاً، من أنشودة رولان في القرن الحادي عشر، إلى رواية استسلام (Soumission) للكاتب الفرنسيّ ميشال ويلبيك الصادرة في أوائل القرن الحادي والعشرين (2015).
في الباب الأوّل تناول الكاتب أربعة مؤلّفات من القرون الوسطى وبدايات النهضة، وهي على التوالي: أنشودة رولان وأنشودة أنطاكية ورواية صلاح الدين وجمهوريّة الأتراك. وإذ يستعرض ظروف تأليف أو وضع كلّ منها، محدّداً إطارها وظروفها التاريخيّة، يعمد إلى تحليل مضامينها من حيث الموضوعات التي عالجتها والدافع إلى تأليفها، والخلاصات التي تُسْتَنتَج منها، مستخرجاً منها نظرة المؤلِّفين إلى الشّرق وإلى المسلمين المشمولين بين الكفّار في المرويّات.
بيّن جان جبّور في هذا القسم أنّ هذه النظرة إلى الشرق، وإلى الإسلام على الأخصّ، هي نظرة مغلوطة تماماً، إذ إن هذه المؤلّفات خلطت عموماً بين الواقع والأسطورة، محوّرة الأحداث التاريخية التي اتّخذت منها منطلقاً للرواية. وقد طغت عليها عموماً فكرة الصراع بين الخير (الغرب المسيحيّ) والشرّ (الشرق المسلم)، وهذا ما قاد المؤلّفين، سواء عاينوا الحقائق على أرض الواقع أم لم يعاينوها، إلى تخيّل صورة العدو وتوهّمها، ولذلك جاءت هويّة هذا العدو غامضة مضلِّلة، كونها في الغالب من صنع مخيّلات يحدوها الخوف والخشية، والأفكار النمطية المسبقة عن العدو الشرّير، وقد أُضفِيَت على هذا العدو مواصفات شكلية ومظهرية، وصفات نفسيّة وأخلاقيّة، تجعل شكله وتصرّفاته أقرب إلى شكل الشيطان في المُخيَّلات الشعبيّة. وفي هذ دليل على عدم معرفة أصحاب هذه المؤلّفات بالشعوب التي تحدّثوا عنها ولا بمعتقداتها ودياناتها، والدليل على ذلك هو ما تبيّن في طروحاتهم من جهلٍ بالدين الإسلامي وركائزه، ومن خلطٍ بين نبيّ الإسلام وسائر الأنبياء، وهو جهل تام بالواقع وبالوقائع. وإن دلّ هذا على أمرٍ ما، فقد دلّ على الأحكام المسبقة والتعصّب الأعمى والرغبة في محاربة الشرق والقضاء على حضارته لنشر الحضارة الغربيّة. وليس أدلّ على ذلك من معاناة غليوم بوستيل، صاحب كتاب جمهوريّة الأتراك، الذي حاول فيه أن يبيّن بعض الصفات الإيجابيّة في الحضارة التركيّة. وقد تسبّب له ذلك بالتعرّض للاضطهاد طوال حياته، بالرغم من تراجعه عن موقفه هذا في غير مناسبة ومكان. وفي هذا خير دليل على الموقف الغربيّ المسيحيّ المتزمّت من الشرق المسلم عموماً...
في الباب الثاني خمس مؤلّفات ما بين أدب الرحلة والمسرح، وهي: رحلة إلى المشرق لجان تيفينو ومسرحية بايزيد لجان راسين والسلطانات الثلاث لسيمون فافار والتعصّب أو محمّد الرسول لفولتير ورحلة إلى مصر وسوريا لفولناي.
وُضِعت هذه المؤلّفات في مرحلة ازدهار الاستشراق كمحاولات لفهم الشرق وحضارتهومع تبلوره أيضاً كسياسة هادفة وموجّهة ترمي إلى "إصلاح" الشرق وتنويره، مخفية وراءها الهدف الأساسيّ، أي احتلاله واستعماره. وقد عمل جبّور على كشف الثغرات في هذه المؤلّفات، مشيراً مثلاً إلى أن جان تيفينو وصف أماكن لم يزرها من قبل مستنداً إلى مرويّات سابقة. كما أشار إلى حالات التعصّب الأعمى والأحكام المسبقة والتمييز الفادح بين شرق وغرب، التي قادت إلى السخرية والتهكّم في إبراز صورة التركيّ أو الشرقيّ أو المسلم. كما وأن هذه المؤلّفات فضحت النظرة الفوقيّة والاستعلائيّة الغربيّة، إذ نجد أنّ أصحابها يدعون صراحة أو مواربة إلى العمل بطريقة ما على احتلال الشرق بذريعة تطويره وحتى تغيير دياناته ومعتقداته واستتباعه بشكلٍ من الأشكال. فنرى مثلاً روكسلان، الشخصيّة الفرنسيّة الوحيدة بين نساء حريم السلطان الخمسمائة، بطلة مسرحيّة السلطانات الثلاث، تنتصر وتفرض نفسها ومفاهيمها، هي المؤمنة بِقِيَم العدالة والحرّية والمساواة. وما ذلك إلا لتبيان حتمية انتصار ثقافة الغرب وحضارته ورقيّه في مواجهة الشرق وتخلّفه.
وإن يكن بعضهم عبّر عن آرائه ومواقفه انطلاقاً من عدائه للأديان عموماً (فولتير) أو من عدائه للكاثوليكيّة مع الإسلام (فولناي)، إلا أنّ ذلك لا يبرّر التركيز على صورة النبيّ محمد وإقحامها كيفما كان، ما أدّى إلى تشويهها عن قصد أو عن غير قصد.
في الباب الثالث اعتمد جان جبّور في دراسته هذه على خمسة مؤلّفات من عصرَي الرومانسيّة والواقعيّة وهي رحلة من باريس إلى القدس لشاتوبريان والشرقيّات لفكتور هوغو والرحلة إلى الشرق للشاعر لامارتين ومراسلات فلوبير ورواية الفلاح لإدمون آبو.
وقد بيّن جبور كيف أنّ هذه المؤلّفات جاءت وليدة أحلام الشعراء والأدباء الرومنطيقيّين، بما فيها من تخيّلات وتصوّرات لا تمتّ إلى الواقع بصلة، أو أن أصحابها لم يطّلعوا على أرض الواقع بل بنوا أفكارهم وآراءهم انطلاقاً من تصوّرات مغلوطة، فأطلقوا التعميمات والأحكام المسبقة، وحتى الذين زاروا الشرق في رحلات قصيرة (شاتوبريان) عمدوا إلى مطابقة الواقع على هذه الأفكار المسبقة، وعبّروا عن انحراف إيديولوجي وعدائية مطلقة لكلّ ما هو عربيّ وتركيّ.
اللافت هنا هو هذا التناقض في المواقف، مع الذات أو مع الآخرين. فالشاعر لامارتين تعامل مع الشرق ودياناته بذهنيّة منفتحة وركّز على النواحي الإيجابيّة في تأمّلاته الشرقيّة. لكن المفاجئ هو الموقف السلبيّ الذي عاد واتّخذه بعد عودته إلى فرنسا، إذ بدا سلبياً تُجاه الشرق، وإن كانت نظرته هذه نابعة من موقفه العام ضدّ الأديان وضد الثوّار. لقد عاد و"تبنّى" نظريّة "وضع اليد" التي كان يقول بها غيره من المستشرقين والدارسين، أي ضرورة السيطرة على الشرق، ليس لإنقاذه ممّا هو فيه وتنويره وإلحاقه بالحضارة الغربيّة وحسب، بل من أجل إنقاذ أوروبا من حالة الانهيار والخراب التي كانت منساقة إليها. "فالطموحات الفرنسيّة التي اختلطت فيها المصالح الاقتصاديّة واعتبارات القوّة والعظمة سلكت دربها فعليّاً إلى أذهان الناس، وهذا ما حدا بلامارتين ربّما إلى الإسراع في ملاقاة هذه التوجّهات العامة بمشروع يشكّل غطاءً إيديولوجيّاً للمطامع الاستعماريّة المستجدّة". هكذا يبدو موقف لامارتين مسايرة أو تماشياً مع "التوجّهات الفكريّة والسياسيّة السائدة".
أمّا فلوبير، وعلى عكس صديقه ورفيقه مكسيم دوكان الذي كان يركّز بكلّ شغف آلة التصوير ليصوّر المعالم الأثريّة والهياكل وغيرها من مظاهر الحضارات القديمة، فقد أبدى سلبيّة مطلقة في النظر إلى المجتمع الشرقيّ بمدنه وأحيائه وناسه وحضارته وسياساته وطرائق عيشه، ولم يسلم من نقده اللاذع سوى مدينة بيروت التي بدت له "مدينة خلّابة تعانق الثلوج قممُها وتنتشر فيها بيوت جميلة مطلّة على البحر والجبل في آنٍ ويحاوطها الاخضرار من كلّ الجوانب حتى يتطاول ويتسلّل إلى داخل المنازل".
وإن كان فلوبير اقترح كغيره "وضع اليد" على الشرق لإصلاح الأوضاع ونشر الحضارة الغربيّة، فإنّ إدمون أبو في روايته "الفلاح" جعل الإنسان الشرقيّ المتنوّر، والمُعجَب بالحضارة الغربيّة، والمُدرِك تخلّفَ بلاده، يتمنّى ويتوق إلى مساهمة الغرب في تخليص الشرق من تخلّفه. وطبعاً لم يكن بطل الرواية سوى "ستارة اختبأ وراءها الكاتب" ليعبّر عن آرائه ومواقفه التي لا تختلف كثيراً عن آراء ومواقف سائر الأدباء والمستشرقين.
في القسم الرابع الذي حمل عنوان "من الصراع الثقافيّ والحضاريّ إلى الإسلاموفوبيا" سلطّ جان جبور، في أربعة فصول، الضوء على ما استجدّ في نظرة الغربيّين، الفرنسيّين خصوصاً، من تغيّرات بفعل التطور التكنولوجي وسرعة المواصلات، وتنامي الاحتكاك المباشر بين الشرق والغرب. وقد توقّف المؤلِّف عند أعمال أهم الأسماء المعروفة في القرن العشرين، من مرحلة ما بين الحربين العالميتين، إلى النصف الثاني منه، وإلى سقوط الاتحاد السوفياتي وما نتج عنه. ونتبيّن هنا أن فكرة الاستعمار قد تبلورت أكثر (خصوصاً مع إنشاء دولة إسرائيل ودعمها)، ولم تعد حجّة "وضع اليد" هي مساعدة الشرق على إصلاح نفسه وعلى التخلّص من تخلّفه، بل تحوّل الشرق، والإسلام تحديداً، إلى العدو الجديد المطلوب بعد سقوط الاتّحاد السوفياتيّ، لتأبيد الصراعات، إضافة إلى كون أرضه ودوله سوقاً استهلاكيّة.
ووفق مقولة كيبلنغ "الشرق شرق، والغرب غرب"، رأى بعضهم، ومنهم لويس برتران، أن الشرق، شرق الرومنطيقيّين والحالمين هو مجرّد سراب، وأنّه غير قابل للتطوّر بفعل "الطبائع الثابتة" فيه وغير القابلة للمعالجة، وأفضل حلّ في نظره هو إدارة الظهر له، بدل وضع اليد والإشفاق عليه والمساعدة على تطويره وتحريره. ولم تساعد فترة الانتداب بين الحربين على تحسين النظرة وتحقيق التقارب، وما فاقم من ترسُّخ المواقف العدائيّة والسلبيّة دعم الغرب، والإنكليز وأميركا على الأخصّ دولة إسرائيل، ثم حرب التحرير الجزائريّة.
وما هذه النظرة الاستعلائيّة من الغرب إلى الشرق، والتي تحوّلت إلى نوع من العدائيّة السافرة عند البعض، سوى نتيجة طبيعيّة للمواقف والدراسات التي تعدّدت وانتشرت على يد بعض كبار المفكّرين منذ القرن التاسع عشر، مثل إرنست رينان الذي رأى أنّ "العرق السامي هو (ذو) طبع متشدّد عموماً ومحدود الأفق وأنانيّ" مستشرفاً "المزيد من انتصار العبقريّة الهندو-أوروبيّة"...
ويمرّ جان جبّور في الفصل السابع عشر على الكثير من المفكّرين والأدباء الأوروبيّين، والفرنسيين على الأخصّ، في القرن العشرين، من الذين تميّزوا بعدائهم للإسلام مع انتشار حالة "الإسلاموفوبيا" بعد الثورة الإيرانيّة، ثمّ على نطاق واسع بعد أحداث 11 أيلول. ويتوقّف على الأخص عند نظرية الأميركي فوكوياما حول نهاية التاريخ بعد بلوغ مرحلة الديموقراطية الليبربيرالية، وعند نظرية هنتغنتون حول حتمية صدام الحضارات. يحلّل جبور النظريتين ويخلص إلى أن فيهما نوعاً من دعوة إلى استعمار جديد، إذ على الشعوب، ومنها الشرقيّة، إمّا القبول بهذه الديموقراطيّة الليبيراليّة وإمّا الانعزال في الخصوصيّات الثقافيّة الموروثة". ويخلص في نهاية الفصل إلى تبيان تفاقم حالة العداء للإسلام دونما تمييز، وكيف أنّ البعض اتّخذ من هذه الحالة أو ردّة الفعل، ومماشاة الموجة، مطيّة للبروز وتحقيق الشهرة. ويلفت جبور إلى أن هذه الموجة وصلت، في الألفيّة الثالثة إلى الأدب، حيث انتشرت الأعمال التي تغذّي هذه الحالة وتنشرها على نطاق واسع. ومن الأمثلة التي اتّخذها وتوقّف عندها مطوّلاً رواية "استسلامSOUMISSION " للفيلسوف الفرنسيّ ميشال ويلبيك، وخصّص لها الفصل الثامن عشر والأخير من كتابه. وبعد ان يقيّم جبّور الرواية تقنيّاً ويرى أنها لا ترقى إلى المستوى الفنّي الرفيع والمتماسك، يلخّص قصّة الرواية الإستشرافيّة التي تستبق الأحداث وتتوقع تحوّل فرنسا إلى دولة إسلاميّة في العام 2022 (صدرت الرواية العام 2015 وللمصادفة، يوم وقوع الاعتداء الشهير على صحيفة شارلي إيبدو). هذا التحوّل يبدأ من قبل مع انتشار الإسلام في فرنسا، وتقاعس الفرنسيّين وخمولهم وإحجامهم عن أي ردّة فعل، ثمّ يبلغ مداه مع انتخاب زعيم مسلم، محمّد بن عبّاس، رئيساً للجمهوريّة الفرنسيّة، لتبدأ معه سياسة أسلمة فرنسا، فتتحول جامعة السوربون إلى جامعة إسلامية، وينتشر الحجاب على نطاق واسع ويُسمَح بتعدّد الزوجات... إلى ما هنالك من مظاهر إسلاميّة.
المهمّ أنّ الرواية تستفزّ القرّاء، وتثير عندهم المخاوف من هذا المستقبل القاتم (ميشال ويليبيك من أكثر المتعصّبين والمتشدّدين ضدّ الإسلام)، علماً أنّ ويلبيك صوّر الفرنسيّين لامبالين بما يجري حولهم، وكأنّهم "استسلموا للأمر الواقع الجديد، كما يحدث لبطل الرواية فرانسوا، الأستاذ الجامعي الذي ينتهي باعتناق الإسلام أملاً في الفوز بمُتَع الزوجات الأربع...
رأى جبّور، وعن حقّ طبعاً، أن الرواية تثير الغرائز وتغذّي العصبيّات على مختلف أنواعها وتفتح الباب أمام العنف والعنف المضاد. ويأسف لأنّ الأدب تحول بذلك "من مادّة للارتقاء بالنفس الإنسانيّة إلى سلاح فتّاك يدمّر المجتمعات...". وإذ أشار إلى رأي كاتبها، ميشال ويلبيك، الذي أكّد أنّ ليس في روايته شيء من ذلك، سوى إنها "تسريع للتاريخ"، إلا أنّه اعتبر أنّ رأيه هذا يزيد الأمور التباساً وغموضاً، ولا ينفي عن الرواية ما تثيره من حساسيّات.
لا ينفي جان جبّور، مع كلّ ذلك، أنّ تلاحق الأحداث في القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين، من الاحتلالات والإنتدابات، إلى دعم قيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، إلى حرب السويس والحروب العربية الإسرائيلية الأخرى، وصولاً إلى أحداث 11 أيلول والاعتداءات التي نُفِّذت في فرنسا وبعض الدول الأوروبيّة، قد غزّت ونمّت العصبيّات والكراهية ضدّ الإسلام والمسلمين. لكنّه يرى أنّ بعض وسائل الإعلام والإقلام الأدبية والصحفيّة، قد استغلّت كل ذلك كمادّة غنيّة لتحقيق انتشار الأعمال وكَسْب الشهرة. ويخلص في النهاية إلى أنّ الحلّ الأمثل، ليس في الدعوة إلى التباعد والانفصال والدعوات إلى "طرد المسلمين من أوروبا، بل في العمل على تحقيق التقارب بين الشرق والغرب، وأنّ ذلك لا يتحقّق إلا بمعرفة الآخر التي "تبدأ حكماً بمعرفة الذات، وفهم الآخر يبدأ بالاعتراف به كقيمة ثقافيّة وحضاريّة ودينيّة والتخلّص من هاجس ترويضه ونسخه على الصورة التي نريد".
لكن لا بدّ في النهاية من ملاحظتين على الكتاب. الأولى تتناول منهجيّته عموماً. لقد حرص جان جبّور على اعتماد منهجية واضحة تمثّلت في استعراض الكتاب وظروف وضعه والأحداث التاريخيّة التي أنتجته قبل تحليله واستخلاص دلالاته. وفي ذلك بالتأكيد دلالة على جدّية العمل، والعمق المعنويّ والإنسانيّ الذي تعاطى به مع موضوع دقيق وحسّاس إلى هذه الدرجة، وهو موضوع ما يزال يتفاعل على نار حامية في مختلف أنحاء العالم. كما أن ذلك يعكس حجم الجهد الجبّار الذي بذله في إعداد دراسته الموسَّعة هذه. لكن في رأينا، كان بإمكانه أن يخفّف كثيراً من عرض ظروف نشأة الكتاب، وشرح طريقة وضعه، واستعراض موضوعه أو قصّته وبإسهابٍ أحياناً، ومن تحليله أدبيّاً وفنّياً، وأن يكتفي باستعراض سريع لكلّ ذلك على أساس أن الأغراض التي رمت إليها هذه الكتب المدروسة، والمفاهيم والأفكار التي أرادت الترويج لها، هي المادّة الأساس في الدراسة وهي التي يجب التركيز عليها.
الملاحظة الثانية تتعلّق بالموضوعيّة العلميّة أو التاريخيّة. فالكتاب هو، وعن حقّ، بمثابة مضبطة اتّهامية للغرب، عبر نتاجه الأدبي، وهنا الفرنسيّ حصراً، في موقفه السلبيّ جدّاً من الشرق عموماً ومن الإسلام خصوصاً على مدى ألف عام تقريباً. لقد رمى الغربيّون الاتهامات جزافاً، وأكثروا من التشويهات، وصوّروا الشرق انطلاقاً من أحكام مسبقة بناء على مرويّات شفهية أو مكتوبة، وعلى مفاهيم مسبقة هي من بنات الخيال والوهم، خصوصاً في العصور القديمة. وقد نقل جان جبّور هذه الاتّهامات بأمانة، إلا أنّه رفضها بالمطلق، من دون مرافعات وافية تبيّن خطأها وانحرافها. لقد اكتفى بالإشارة إلى أنّ في ذلك "تحاملاً"، أو "شحناً للنفوس ضد الإسلام"، أو "جهلاً بالواقع"، أو "أحكاماً مسبقة" أو "تجنّياً" وإلى ما هنالك... وذلك من دون التقدّم بالحجج والبراهين التي تدحض هذه الإدّعاءات وتسقطها. فالموضوعية في الدراسة كانت تقتضي أن يتساءل الكاتب-الباحث، هل لهذه الإتهامات من أساس؟ وهل هناك في المجتمعات الشرقية الإسلامية والمسيحيّة على حدّ سواء ما يوحي بهذه النظرة السلبيّة ويبرّرها؟ لا بل أليس هناك في المفاهيم الدينيّة وتطبيقها، وفي الحياة الاجتماعيّة وعاداتها وتقاليدها ما يثبت ولو جزئيّاً صحة هذه الاتهامات؟ ولذلك بدت دراسة جبّور عرضاً اتّهامياً صادقاً ومحِقّاً، إنما من دون مرافعات وافية تعطي كلّ ذي حقّ حقّه، ربّما لعلمه أنّ هناك دراسات، في الشرق والغرب، فنّدت هذه الآراء وردّت عليها مظهرة خطأها حيث يجب، ومعترفة بالواقع الشرقي حيث يجب أيضاً. وربّما أراد المؤلّف تفادي الدخول في هذا النوع من الردود التي تفتح الباب لجدالات وسجالات تتطلّب من دون أدنى شكّ فصولاً طويلة تصلح على الأرجح أن تشكّل مادّة دسمة لدراسة مستقلّة ولكتابٍ جديد. ربّما!
(*) صدر عن دار جرّوس برس- ناشرون، في 414 صفحة من القطع الوسط