ساهمت دعوة مناصرة الفيلم الروائي الطويل "فرحة" للمخرجة الأردنية الفلسطينية، دارين سلام، وعرضته منصة "نتفليكس" أخيراً، برفع تقييمه، بعدما أطلق الاسرائيليون حملات ممنهجة ضده، مطالبين بحذفه من "نتفليكس"، بتهمة تشويه صورة جنودهم.
الدعوات العلنية لخفض تقييم الفيلم في موقع IMDb العالمي المتخصص بتقييم الأفلام؛ أدت إلى انخفاض تقييم الفيلم في البداية من 7.2 إلى 5.8 نجمة، قبل أن يرتفع تقييمه من جديد بتأثير دعوات عربية مضادة للإسرائيلية، دعت لمناصرة الفيلم، ليصل تقييمه في الوقت الحالي إلى 8.5 نجمة.
و"فرحة"، هو ثاني أعمال سلام السينمائية، وكان قد عُرض العام الماضي في مهرجان تورونتو في كندا، ومهرجان بالم سبرينغز في ولاية كاليفورنيا، وخلال عرضه في المهرجانات السينمائية لم يثر الفيلم الضجة التي أثارها عقب طرحه في "نتفليكس".
استلهمت المخرجة دارين سلام فيلمها عن حكاية كانت تقصها عليها أمها في طفولتها، وهي قصة طفلة فلسطينية تدعى "رائدة"، كانت صديقة والدتها في طفولتها، حبسها والدها في بيت المؤن خوفاً عليها، إذ كان يريد أن يخبئها عندما اقتحم الجنود الإسرائيليين قريتهم، وبقيت عالقةً في تلك الغرفة لأيام، لتنجو في النهاية وتهاجر إلى سوريا مشياً على الأقدام وتشارك قصتها مع الآلاف في محاولة البحث عن معلومات حول مصير عائلتها.
ومن خلال هذه الحكاية الفردية الخاصة، يحاول فيلم "فرحة" أن يقدم صورة عن السياق العام لأحداث مجازر التطهير العرقي بحق الفلسطينيين، عندما اقتحمت القوات الإسرائيلية أراضيهم؛ لكن هذه الصورة تتسم بالرمزية ويتم تجميعها من خلال قطع بازل صغيرة، تم جمعها من منظور الفتاة الصغيرة "فرحة"، التي كانت شاهدة على أحد تلك المجازر من خلال ثقب صغير في باب المؤن.
تكتفي سلام بأن تحدد الزمان الذي تجري فيه أحداث الفيلم، 1948، ليقترن بين الفيلم والنكبة، ولتزرع جملة من الدلالات حول تاريخ تكوين دولة إسرائيل، وارتباطها الحتمي بما جرى حينها من رعب وقتل وتهجير قسري.
ولا يحاول الفيلم أن يكون صورة بانورامية يلتقط فيها حكاية متكاملة عن كل ما حدث في مختلف المدن والقرى الفلسطينية، وإنما ينحاز إلى الحكاية الفردية، لتجري أحداثه كاملةً في إحدى قرى فلسطين، ويبني لنا مقدمة طويلة حول سكان القرية وملامح الشخصيات الرئيسية والثانوية فيها، ليستفيض الفيلم كثيراً بتصوير ملامح شخصيات ستختفي في ما بعد، من دون أن يكون لها أثر واضح في السياق الدرامي.
وعلى الرغم من أن المقدمة تبدو طويلة ومبالغ فيها قبل الوصول إلى الحدث الرئيسي والذروة، إلا أنها تبدو مهمة للدلالة على ان الأشخاص الذين قتلوا وماتوا ليسوا مجرد أرقام وإنما كانت لكل منهم حكاية، ولكل منهم آمال وطموحات، كما هو حال البشر في أي مكان آخر؛ للتأكيد على أن الإسرائيليين لم يبنوا دولتهم على أنقاض حضارات بلا ناس، قديمة منسية أعادوا إحياءها، وإنما على أنقاض المدن التي دمروها بوحشية.
يركز الفيلم منذ البداية على حكاية "فرحة"، الفتاة الصغيرة التي تسعى للتمرد على العادات السائدة في القرية والتي يُشاع فيها أن الفتيات في سن البلوغ يتزوجن على الفور؛ أما فرحة فيكون لها طموح مختلف في مواصلة تعليمها في المدينة، وتحاول إقناع والدها بذلك بمساعدة عمها المثقف الذي يعيش في المدينة.
ربما تبدو شخصية "فرحة" غير منطقية بوعيها النسوي على الأقل، فهي مجرد فتاة مراهقة من بيئة بسيطة، وليس من المنطق أن تكون الشخصية على الدوام تحمل كتاباً معها وتقرأه وتخاطب والدها بأفكار نسوية لم يكن قد وصل الوعي الجمعي إليها في ذلك الزمان؛ لتكون نتيجتها فتاة متمردة على كل القيم السائدة والرغبات السرية؛ حيث لم تفكر "فرحة" بالدخول بأي علاقة عاطفية، كما تفعل معظم الفتيات في جيلها.
تستطيع "فرحة" إقناع والدها بالموافقة على إكمال تعليمها في المدينة، إلا أن مجرى حياتها يتغير مع اقتحام القوات الإسرائيلية للقرية، وهنا تتحول "فرحة" من حكاية شخصية إلى رمز يختزل مأساة الفلسطينيين الذين تغيرت حياتهم بين ليلة وضحاها بعد الاجتياح العام 1948. يخبئها والدها في غرفة المؤن ويقفل بابها، وتنتظر "فرحة" عودته.
وعلى الرغم من أن هذا الحدث يشكل إحدى ذروات الفيلم، إلا أن الإيقاع يبرد هنا بشكل كبير، حيث نرى مَشاهد مكررة لفرحة وهي تحاول أن تنجو من سجنها وكيف تأكل من الطعام المخزّن وتقضي حاجتها في زواية الغرفة وتشرب الماء بعد هطول المطر وتصنع سريراً لها من كومة بطاطا؛ لكن ذلك كله يتم بإيقاع بطيء، بالكاد يمكن تحمله.
ولا يتحسن الفيلم إلا بعد أن يبدأ الحدث الخارجي الذي تشهد عليه "فرحة" من ثقب الباب؛ أي حين تدخل عائلة فلسطينة إلى منزلها، ليقوم الجيش الإسرائيلي بتصفيتها هناك.
ما يميز الفيلم هو تقديم المجرم بطريقة مختلفة لا تخلو من التناقض، فأحد أفراد الجيش لا يستطيع قتل الطفل الرضيع في العائلة، فيكتفي بتركه مرمياً على الأرض ليموت وحده. وعلى الرغم من كون النتيجة واحدة، وأن الجندي الإسرائيلي لم ينقذ الطفل، إلا أن هذا المشهد نال القسط الأكبر من النقد في العالم العربي، لأنه لم يصل إلى درجة الوحشية الكافية في تصوير العدو، والتي تُرضي العرب.
ومن أكبر مشاكل الفيلم والنقطة السلبية الأبرز فيه، أن شخصية "أبو وليد" (عم فرحة)، الرجل المثقف الذي يدافع عن حق المرأة في التعلم، هو الشخص الذي تكتشف "فرحة" بأنه عميل لإسرائيل وأنه يساعد في إلقاء القبض على المدنيين؛ ليتحول فجأة الشخص الإكثر إيجابية في البداية، إلى شيطان، ويبدو الفيلم مصطفّاً مع القيم الرجعية على الأفكار التحرّرية التي قد تبدو حليفة للإستعمار.
نهاية الفيلم بدورها تبدو ناقصة، إذ تكتشف "فرحة" بالصدفة أسلحة مخبأة في بيت المؤن وتقوم بالتصويب على الباب لخلعه، لتخرج أخيراً وتمشي إلى المجهول من دون أن نرى كيف استطاعت أن تنجو من الجنود في القرية؛ ليبدو حقاً من الغريب أن يصور فيلم كل تلك التفاصيل الزائدة عن الحاجة، كالتبول مثلاً، وألا يصور رحلة النجاة الأخيرة والأكثر إثارة، نحو مستقبل غامض، فلا نعرف إن كانت "فرحة" سعت فيه لتحقيق أحلامها بالدراسة، أو استبدلت أحلامها وأفكارها بتأثير الصدمة.