بدأ زاهر يشعر بتفاقم الضغط النفسي مع البداية "الجديّة" لفصل الشتاء. فكيف يمكنه هو الموظف المتقاعد في السلك العسكري أن يؤمن التدفئة لعائلته، في حين أصبح دخله يعادل الستين دولاراً شهرياً! يقول زاهر لـ"المدن"، "استغنيت عن المازوت، وجمعت الحطب بنفسي.."، مشيراً بمعادلة بسيطة كتبها على الورق، بأنه وعائلته المؤلفة من أربعة أشخاص، كان بحاجة الى أربع براميل مازوت للشتاء، أي ما يعادل 900 دولار، أو أربعة طن من الحطب أي ما يعادل 500 دولار. وفي كلا السيناريوهين يفوق ذلك قدرته الشرائية، بما أنه المعيل الوحيد للعائلة. جمع زاهر الحطب اليابس بنفسه من بعض الأماكن المهملة، مفضلاً أن يصرف المال على القوت اليومي لإطعام عائلته.
حال زاهر كحال كثير من اللبنانيين، يفاضلون بين صرف المال على الطعام أو التدفئة. فتأمين الاثنين معاً بات شبه مستحيل على فئات كثيرة، خصوصاً في الأرياف والقرى.
عائلة ليلى مثلاً، قررت أن تشتري 3 طن من الحطب، وتقوم بتقسيط المبلغ على عدّة أشهر، وذلك من خلال مدخوليّ العائلة الذي يصل مجموعهما الى 130$ شهرياً، أي ما يعادل أكثر من خمسة ملايين ليرة بقليل. هو رقم متواضع بالنسبة للوضع الاقتصادي الحالي.
حظيت عائلة ليلى بـ"دعم" مكّنها من تقسيط الحطب. وتقول لـ"المدن" أن جدّتها أرسلت لهم "المونة" لمساعدتهم بتوفير مصاريف الغذاء والاحتياجات الأساسية. تضيف"مدخولي متدنٍّ جدّاً، ولكنني بحاجة إلى العمل لتأمين الحد الأدنى، لذلك أبحث عن عملٍ إضافي". ليلى، وعمرها 22 عاماً، تدفع قسط جامعتها من مدخولها، الذي تساعد به أمّها على تقسيط الحطب.الخيار المرّحسب إحصائيات مؤسسة "الدولية للمعلومات"، يبلغ مجموع احتياجات الفرد الغذائية الأساسية 8 مليون ليرة لبنانية في الشهر الواحد، للعائلة المؤلفة من 4 أفراد، وذلك لا يشمل مصروف المازوت أو الحطب في فصل الشتاء، الذي تبلغ تكلفته الشرائية ما بين 500 و1000 دولار، أو الكهرباء والماء وأي احتياجات "ثانوية" أو طارئة. وتشير الدولية للمعلومات أن معدّل الدخل الفردي في لبنان هو حوالى 6 ملايين ليرة لبنانية في الشهر الواحد. ولكن بالواقع، نرى أن العديد من الحالات، كحالة الموظف المتقاعد في السلك العسكري أو موظف القطاع العام، لا يتعدّى مدخولهم الثلاثة ملايين ليرة لبنانية شهرياً. يضع ذلك الكثيرين بين خيارين أحلاهما مرّ: فإما التدفئة أو الطعام.
ليلى وزاهر يمثلان ما كان يسمّى الطبقة الوسطى في لبنان، قبل حلول الأزمة الاقتصادية. وهما عينتان عما آل إليه وضع هذه الطبقة التي صارت عاجزة عن توفير الحقوق البديهية لعائلتها.البرد والثلج اللذان كانا نعمة صارا في الزمن اللبناني الراهن يجسدان الخوف من الذلّ والمرض.