2025- 01 - 19   |   بحث في الموقع  
logo الراعي: الحياد هو أساس الميثاق الوطنيّ logo منخفض جوي وعودة للأمطار logo هذا ما روته شاهدة عيان على حرائق لوس أنجلوس logo البطريرك الراعي: يشعر اللبنانيّون بالإنشراح ازاء اهتمام رؤساء الدول بدعم لبنان ومساعدته logo اتفاق وقف إطلاق النار في غزة يدخل حيز التنفيذ logo المفتي قبلان: الطموح بالحكومة أن تكون حكومة لكل لبنان بحيث تعمل بعيداً عن الهوية الطائفية logo المكتب الإعلامي الحكومي في غزة: الوزارات والمؤسسات الحكومية على جاهزية كاملة لاستئناف عملها logo كوريا الجنوبية: الرئيس المعزول يدعو أنصاره إلى التعبير عن مشاعرهم سلمياً
"طنطورة" ألون شوارتس.. إسرائيل المُجرمة بألسنة أبنائها
2022-12-16 12:26:31

التاريخ مساحة مضطربة. من السهل التلاعب به، تلفيقه، تزويره، انتقاؤه. وهو أيضاً جزء أساسي في تكوين إدراك المرء لهويته وقصّته الشخصية ومنظوره للعالم وللأشياء. بطبيعة الحال، يميل معظم البشر للإنجذاب نحو الجانب الخيّر أكثر من السيىء، وبالتالي يختارون سردياتهم على وقع هذا الانحياز الإنساني العام، لكن الأمر ليس دائماً بهذه البساطة لأن كلاهما غالباً ما يتشابك في تاريخ المرء، برضاه أو دونه.في بعض الأحيان يمكن أن يستحيل الأمر عماءً كاملاً يتمكّن من إنسان أو مجموعة من البشر يتحجّرون لما يعرفونه أو يؤمنون به (ولا يعرفون ولا يريدون معرفة سواه) أو ما يفضّلون تصديقه على حساب الحقيقة وما حدث بالفعل. قد يكون هذا هو الحال عندما يتعلق الأمر بالعديد من الأشياء، لكن عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، فإن تاريخها - على قِصره – حافل بنماذج لمنهج التشويه والمحو والإحلال في سبيل تثبيت سردية رواية/تاريخية عن دولة ناشئة "من رحم المعاناة والاضطهاد" مرّت بصراعات مع جيرانها "الكارهين" وصولاً لجعلها "واحة للديموقراطية والتنوع" وسط جغرافيا مستبدة ومتخلّفة. لا يحتاج المرء للذهاب بعيداً، ففي أي عملية عسكرية أو حرب، تستخدم الحكومة الإسرائيلية وسائل التواصل الاجتماعي للدفاع عن أفعالها وتصوير الفلسطينين باعتبارهم "إرهابيين مُعتدين". هذا سلوك شائع من دولة مكرّسة تاريخياً لإخفاء فظائعها لحماية صورة النقاء الأخلاقي المفترض أنه شكّل جوهر تأسيسها."طنطورة"، الفيلم الوثائقي الجديد للمخرج ألون شوارتس، والذي عرض للمرة الأولى في مهرجان صندانس السينمائي أوائل العام الحالي، يؤكّد من جديد احتراف الدولة الصهيونية للأكاذيب والتضليل، عبر تقديمه كشف حساب بأثر رجعي لحكاية يتيمية من أكوام الجرائم المؤسسة للدولة الصهيونية والتي عمل القضاء الإسرائيلي والمؤسسة الأكاديمية على محاولة طمسها.الطنطورة هو اسم قرية فلسطينية ساحلية هُجّر أهلها وأُبيد بعضهم في حرب1948، ويعيد الفيلم سرد تاريخ مذبحتها الشهيرة في خضم ملحمة سعي الدولة الصهيونية للوجود على أرض ليست لها. لكنه لا يكتفي بذكر الحقائق التاريخية المثبتة وإنما يتابع المحاولات اللاحقة لإسكات وتشويه سمعة باحث إسرائيلي كشف تجاوزات أفراد الجيش/العصابات وأثبت أن مذبحة كبيرة وقعت في الطنطورة في 1948. ما يفعله الفيلم ببساطة هو دحض الرواية الرسمية لإسرائيل عن نفسها وأسطورة تأسيسها النقية الأخلاقية بلسان "أبنائها"، أولاً عبر إعادة التذكير بالمجزرة، ثم استقصاء لواحقها وكشف ما فعلته السلطات الإسرائيلية للتستر على الفظائع المرتكبة هناك وإعادة كتابتها التاريخ بحيث تخرج الدولة وجيشها بصورة أكثر إيجابية.
عبر مقابلات مع أعضاء سابقين في جيش الاحتلال شاركوا في حرب48 وغيرهم من الناجين من المجزرة، بالإضافة إلى شخصيات بارزة أخرى في الحكاية، إلى جانب لقطات أرشيفية، بما في ذلك صور وتسجيلات صوتية ولقطات إخبارية؛ ينسج الفيلم سردية مقنعة تتعمّق في مفهوم التاريخ بفكّها مغالق وشفرات عدة تفسيرات لمجزرة الطنطورة. اختلفت روايات الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي حول تلك المجزرة بشكل كبير: عدد الضحايا، وكيف قُتلوا، وما إذا كان الفلسطينيون قد قُتلوا على الإطلاق. مقارنة هذه الحسابات مع اللقطات الأرشيفية المعروضة ينتج لحظات مفارقة وكاشفة لا تسلّط الضوء فحسب على حقيقة ما حدث ومداه، وإنما أيضاً تكشف ما يفعله الزمن ومرور الأوقات في تجاوز البشر لأفعالهم وصدماتهم كل بطريقته الخاصة.جُمعت تلك التسجيلات والمقابلات كجزء من بحث ميداني أجراه الباحث تيدي كاتس في العام 1988 (قابل فيه عشرات الجنود العرب والإسرائيليين الذين قدّموا شهادات عن الفظائع المرتكبة في الطنطورة)، ليجد نفسه في مرمى النيران بعد الطعن الإسرائيلي في أطروحته بعدها بعامين حين ظهرت خلاصاتها كجزء من كشف صحافي، تلته دعوى تشهير رُفعت ضده من قبل مجموعة من قدامى المحاربين الناجين من الحرب. بالإشارة إلى أنه ربما كانت هناك دوافع خفية للدعوى (بعدما صار عدواً لإسرائيل)، بدا أن الهدف النهائي هو إسكاته وتشويه سمعته كوسيلة للحفاظ على تاريخٍ وماضٍ أكثر نصاعة في نظر الشعب الإسرائيلي وبقية العالم. كان كاتس مجرد جزء من خطة أكبر بكثير من قبل الحكومة الإسرائيلية لإعادة كتابة التاريخ لصالحهم، لكن بحثه فاجأهم وقلب عليهم الطاولة.ومع ذلك، أجرى الفيلم تحقيقه الخاص الذي أضفى مزيداً من المصداقية على أطروحة كاتس الأصلية، لكن كان هناك الكثير الذي يمكنه فعله. صحيح أن الشهادات الموجزة الواردة على ألسنة الجنود الإسرائيليين فظيعة وصادمة ومذهلة في بشاعتها وإجرامها، لكن كان من الأفضل إفساح المجال لرؤية المزيد منها حيث يعتمد الفيلم بشكل كبير على ملحمة كاتس ودراماه القانونية. بعبارة أخرى، الفيلم بحاجة لمزيد من الوقت للقيام بما يتوجّب عمله، أي إعطاء النطاق الكامل لعدالة موضوعه.ينبّه كاتس، المخرجَ، في بداية الفيلم: "كن حذراً. إذا كنت ستنجز فيلماً، فسيلاحقونك مثلما فعلوا معي". يستخدم المخرج 140 ساعة من الشهادات التي سجّلها كاتس لإلقاء الضوء على التطهير العرقي ومحاولة الحصول على إجابات وآراء من قدامى المحاربين الإسرائيليين في الحرب ومن القاضي الذي رفض إقامة محاكمة عادلة لكاتس. مشاهدة ردود أفعالهم على سماع هذه التسجيلات هائلة التأثير: هناك شعور بالخزي، وعيون عصبية، ومحاولات لتبرير واعترافات بأفعال وحشية؛ هناك أيضاً إنكار أو إحجام عن قبول الحقيقة. يقول أحدهم: "إذا رأيت ذلك، فلا أتذكّره".يستخدم شوارتس كل هذه المقابلات لتشكيل ما يشبه "بازل" صور لما حدث في الطنطورة، وبالتالي يكشف عن طرق القتل وأعمال التعذيب والاغتصاب التي وقعت هناك. بالإضافة إلى اللقطات الأصلية التي حصل عليها كاتس ومقابلاته، يتسلّح الفيلم بصورٍ ولقطات مرممّة لم تُعرض من قبل، بالإضافة إلى إعادات تمثيل توثيقية مدمجة في الفيلم بطريقة ممتازة، في عملٍ إخراجي ومونتاجي لافت.شخصية تيدي كاتس، هي المفتاح والمحرّك العاطفي لهذه القصة. هو باحث دؤوب، في محاولته فعل ما يمليه عليه ضميره وسعيه من أجل العدالة من خلال استقصاء صحافي نزيه؛ وجد دولة بأكملها ضده. نُعِت بالكاذب وجُرّد من كرامته ومهنيته لقوله الحقيقة. يوضّح شوارتس الأثر النفسي الذي تسبّب به مثل هذا العبء على كاتس، يخلق معه تعاطفاً ويعطيه مجالاً للتنفيس، ويرفد حكاية المجزرة التي تنكرها إسرائيل بقضية الباحث الإسرائيلي المعاقَب لكشفه إياها، فيتوازى سعي الفيلم لتبرئة الرجل مع سعيه الأول لتحقيق العدالة في الجرائم الإسرائيلية.وبهذا، لا يقتصر الفيلم على بيان ما حدث في الطنطورة، وإنما يستخدم أهمية الإخبار عن المجزرة لاستكشاف تلاعب إسرائيل بالتاريخ ومساءلة قيمها الأخلاقية ودوافعها الوجودية للحفاظ على نسختها من الحقيقة. "النكبة" تصبح "حرب الاستقلال"، والتهجير والإبادة يستحيلان تركاً وتخلياً عن البيوت والأراضي بالإرادة الحرّة. هذه هي "الحقيقة" التي يتعلّمها كل هؤلاء المجانين العنصريين الذين نراهم في ساحات الأقصى ومحيطه كما غيرهم في بقية أنحاء "الدولة اليهودية". النكبة تابو التابوهات في بلدٍ يعرف ساسته وصقوره جيداً هشاشة أساسه الأخلاقي. يجري تضخيم هذا التيار وتبريره من قبل قدامى المحاربين الموجودين في الفيلم، حيث يفضّل الكثير منهم التجاهل والنسيان؛ جزئياً لتجنب الشعور بالذنب وإعادة إحياء صدمة التاريخ، لكن من الواضح أيضاً من كلماتهم أن تلفيق الخطاب الصهيوني المتعاقب والمستمر قد نجح في غسل أدمغتهم.يسمح المونتاج الممتاز والإيقاع السردي بالانتقال العضوي بين مقاربات وأساليب تعامل، وخلق فهم كامل للقضية على حقيقتها كجريمة استعمارية. دولة محتلة مجرمة في مقابل مواطنين عُزّل مضطهدين، قتلاً وتشريداً. بطريقة مماثلة، فإن موضعة وتوزيع المقابلات في جميع أنحاء الفيلم يخلقان تناقضات تثير مشاعر قوية من العجز والغضب: من ناحية، لدينا مجموعة من الأكاديميين يشرحون أهمية السعي للاعتراف بالمجزرة، ومن ناحية أخرى، هناك نماذج بغيضة وتافهة تسفّه الأحداث وتضحك عليها، أو، ببساطة، توجّه الإهانات لكاتس لإنه ليس إسرائيلياً بما يكفي."طنطورة" فيلم مهم واستقصاء موجع وكاشف يوضّح جانباً من إرث الجرائم الإسرائيلية وفداحة الوحل الأخلاقي القائمة عليه دولة الاحتلال وتورّطها في حالة إنكار منهجية تضليلية مستمرة، والأهم أنه يدين المجرمين بلسانهم. دراسة تبرهن على تكتيكات إسرائيل لإخفاء ماضيها والتلاعب بسكانها، وهو أيضاً منارة قوية تسعى إلى قيادة الجمهور نحو تحقيق الاعتراف والمصالحة والعدالة. يسعى شوارتس لإبراز الماضي، لأنه من دون الدراسة والتعلّم من أخطاء تاريخنا، محكوم علينا بتكرارها.


وكالات



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2025
top