ضحايا 4 آب "الأحياء": حياة مقصوفة بالألم اليومي
2022-12-14 16:25:59
خلف الأبواب الموصدة، مواطنون يواجهون شبح الموت، بلا أنينٍ. تتسرب آهات خافتة من صدورهم. فأقصى أحلامهم في الحياة هو علاج ودواء وبعض الأمل. غير أن هذه الحقوق ليست متوفرة في لبنان.
حكايات كثيرة، نعلم عنها القليل، ويخفى منها الكثير. ولكن ما ندركه جيداً، أن في الرابع من آب 2020، توقفت حياة أكثر من 6500 شخص، وتحولت إلى جحيم أصيبوا به عن سابق تصور وتصميم.بين الحياة والموت..ولأن أجسادهم صارعت الموت، عادوا اليوم ليحيوا هذا المشهد في ذاكرة من عرفوهم ومن لم يعرفهم. تجمعوا وشاركوا يوم الثلاثاء 13 كانون الأول، في اللقاء الذي نظمته كلّ من مبادرة العدالة الاجتماعية والاقتصادية، جمعية معاً، والاتحاد اللبناني للأشخاص المعوقين حركياً، بالتعاون مع جمعية أهالي ضحايا انفجار 4 آب، في بيت بيروت، لإطلاق الحملة التي تُعنى بالجرحى والمتضررين الذين أصيبوا بإعاقات دائمة، تحت شعار "بين الحياة والموت".العالم بعين واحدةيتكرر مشهد انفجار بيروت في ذاكرة ميرنا حبوش (37 عاماً)، مارد ضخم، أسود اللون، يخرج من خلف الواجهة البحرية، أو من بين الإهراءات، فينفث النار من فمه ليدمر بيروت مجدداً: "حينها، مشيتُ فوق الجثث والأشلاء، شعرتُ بهم، بدا المشهد ضبابيّاً، وربما يعود ذلك لإصابتي البالغة في العين اليمنى التي لم أشعر بنزيفها. تمزقت جفوني، خسرت عيني وفقدت نظري بشكل نهائي، وتعرضت لكسور في العظام. في لحظة واحدة سُلبت مني الطمأنينة والأمان. وتحوّلتُ من إمرأة مستقلة ناجحة في مهنة المحاسبة، إلى إمرأة ضعيفة بعينٍ واحدة".
لا معيل لحبوش سوى نفسها، فالجمعيات توقفت عن مساعدتها، ووزارة الصحة لا تُتابعها علاجياً.الطفل الجريحالطفل شربل مدنس (12 عاماً)، من الأشخاص المعوقين وهو أصغر المتضررين، امتنع عن لعبته الإلكترونية المفضلة (بوبجي Pubg) بعد أن تحولت من لعبة افتراضية إلى مشهد واقعي في الرابع من آب. فشاهد الموت أمام عينيه. كُسرت أطرافه وضلوعه. ما يتذكره فقط أنه كان يلعب "بوبجي" مع ابن عمه على الشرفة في منطقة الكرنتينا، وفجأة حمله ضغط الهواء ورماه في الغرفة المجاورة وارتطم بالأرض.
تكسرت عظامه الضعيفة، وحُرم من النوم والراحة لأشهر طويلة. لم يقوَ على الحركة أبداً. يروي معاناته لـ"المدن": "كنت أبكي دائماً لعدم قدرتي على لمس جسمي، كان الطقس حار جداً، وكانت الجروح تضايقني ولم أستطع أن أخفف من هذا الألم أبداً. عانيت كثيراً واليوم لا أتمنى إلا القدرة على الوقوف لأخفف التعب عن والديّ".فاقد الذاكرةعلي الكنو (47 عاماً) حاجب في أحد المباني القريبة من المرفأ. وقع حائط المنزل على عائلته، فتوفت إبنته سيدرا (16 عاماً) على الفور، تعرض لشلل جزئي وفقد حاستي النظر والسمع في الجهة اليمنى من وجهه، وتعرض لكسور في الرأس. إصابته البالغة في الرأس أفقدته الذاكرة لعدة أشهر وتدهورت حالته النفسية، ويعاني من اضطرابات في الدماغ ومشاكل في الاتزان والتركيز. فيقول للمدن: "فقدت ذاكرتي طويلاً، وتفاصيل كثيرة لم أتذكرها، وحده موت طفلتي لم يفارق ذهني أبداً فشوارع بيروت لا تتيح لي النسيان". يأس دائمحاول محمد (42 عاماً) الانتحار عدة مرات، شرب بعضاً من المواد الكيميائية، قطّع شرايينه بآلات حادة، وباءت محاولاته بالفشل. لا يتقبل مواجهة الحياة بقدمٍ واحدة، فيعتبر أن "الموت أسهل وأرحم". يرافقه اليأس كأنهما توأمان، يشعر بالأسى تجاه زوجته التي تعيله، هو العاجز على تأمي أبسط حقوقها، يطلب منها تركه والرحيل، فترفض.
أصيب في الرابع من آب في قدمه، جُرحت، إلا أن جائحة كورونا والأوضاع الاقتصادية الصعبة منعته من أن يعالج جرحه بالطريقة الصحيحة. فالتهبت وبُترت. من دون إنذارٍ، تنهمر دموعه خلال الحديث، يمسحها بسرعة كأنها حمماً حارقة. فيشدّ على الأذرع الخشبية التي ربطها بمشدات يدوية ليعدّل جلسته.
الناس تتعكز على عُكازها، ترمي ثقلها الجسدي على قطعتين من الخشب، فتسندهم. ولكن رؤية محمد كفيلة بأن تظهر لك أن عُكازه بحاجة إلى عُكاز آخر. الضائقة المادية دفعت به إلى اللجوء للشارع. فمنذ بواكير الصباح، يجول بين شوارع بيروت، يطلب من المارة المال أو الطعام أو مساعدته في شراء أدويته. ويعود ليلاً محملاً الدولة اللبنانية مسؤولية كل ما وصل إليه.
يهيأ لنا اليوم، ونحن نستمع لقصص المتضررين ومعاناتهم، أن 4 آب لن ينتهي. هو مستمر في بلاد الخراب والألم اليومي. طالما أن أسباب الجريمة لا تزال تحكم حياة اللبنانيين.
وكالات