لسبب أجهله، ولعل من الأسلم نسبته إلى الصدفة وحدها، معظم معارفي من متحدثي الروسية يحملون الجنسية الأوكرانية، بعضهم من روس أوكرانيا، والبعض الآخر من الأوكران، والشخص الوحيد من جمهوريات وسط آسيا الذي ربطتني به علاقة صداقة كان هو أيضاً من أصل أوكراني، نقل جده إلى القفار البعيدة لكازاخستان في عهد ستالين. كانت الروسنة سياسة رسمية معلنة لإمبراطورية آل رومانوف، وكان يعنى هذا على المستوى الثقافي، أن تحل اللغة الروسية وآدابها محل غيرها في أرجاء الإمبراطورية الشاسعة، فهي اللغة الرسمية ولغة التعليم في المدارس والثقافة الرفيعة معاً، وهذا بالطبع جاء على حساب مئات الثقافات الأخرى ولغاتها، إبادتها أو على الأقل قمعها. السوفيات، من بعد القياصرة، كانت مشاريعهم أكثر طموحاً وربما أكفأ أيضاً، فغير أن مشروع الروسنة أكتسب زخماً دموياً مع ستالين، فإن جانبه الإثني ظهر بشكل أوضح، وزع الملايين من الروس والناطقين بالروسية كلغة أم، في كافة أرجاء الإمبراطورية الحمراء، وتم خلطهم بسكانها. أما الثقافة الروسية، فلم يعد مداها الإمبراطورية، بل العالم بأكمله، حملتها آلة الدبلوماسية السوفياتية معها في كفة عادلت في ثقلها أيديولوجيا الماركسية- اللينينية.
(تم تفكيك تمثال بوشكين في عدد من المدن الأوكرانية)طويلاً تترك الامبراطوريات أثرها حتى بعد أجيال من زوالها. ممن أعرف في لندن، أسرة أوكرانية، حيث تتحدّث الأم مع أولادها في البيت بالروسية والأوكرانية معاً. حين يتعلق الأمر بالتلفاز، كان الجميع يشاهد القنوات الروسية ومسلسلاتها. أما الغناء، فعادة ما كان ينشد الطفلان للضيوف أهازيج شعبية روسية بناء على طلب الأم، وهي التي بدت فخورة دائماً بإتقانهما للروسية. بعد الغزو الروسي للقرم، توقف هذا كله. ما بقي كان شيئاً آخر... الموسيقى الكلاسيكية. فبما أنها مجردة، كان يمكن تحييدها أو تجاهل أصولها. في صالة الشقة الضيقة التي احتل نصفها بيانو ضخم، كان يجلس أصغر الطفلين ليلعب أمام الزوار لحن "رقصة جنية السكر"، كانت الأم في كل مرة تصفق بزهو، وهي تقول: هذه باليه "كسارة البندق" لتشايكوفسكي، وتضغط على مخارج ألفاظ الاسم الروسي. ذكّرها ذلك بطفولتها، في عمرها الصغير حضرت مرة في كييف عرضاً للباليه الشهير من فرقة البولشوي ذاتها.في مقال له بجريدة "الغارديان" البريطانية، الأربعاء الماضي، دعا وزير الثقافة الأوكراني، أولكسندر تكاتشينكو، حلفاء بلاده الغربيين، إلى مقاطعة موسيقى المؤلف الروسي الشهير تشايكوفسكي. لا يطالب الوزير بمقاطعة فرق الدولة الروسية ولا الفنانين المعروف عنهم علاقة وثيقة بنظام بوتين، أو من أعلنوا دعمهم للحرب الدائرة، فهذا ما قامت به المؤسسة الثقافية الغربية بالفعل بعد اندلاع الحرب مباشرة. إلا أن ما يطلبه إضافة لذلك هو مقاطعة كل المنتجات الثقافية الروسية، وبصيغة مباشرة لا تحتمل اللبس، يعنون مقاله: "أنا أطلب منكم أن تقاطعوا تشايكوفسكي إلى أن تنتهي الحرب".(أكاديمية أوكرانية متضررة من الحرب)يشحذ الوزير الأوكراني دفوعه، كاشفاً عن الجانب الثقافي في الحرب على بلاده، وفي كل حرب. فهو يعدد أعمال التخريب التي لحقت عمداً بالمعالم الثقافية خلال الغزو، وبعمليات الاستيلاء الثقافي المادي والمعنوي التي يرتكبها الروس. هذا هو الظاهر، ما يمكن حسابه أو ترميمه واستعادته، أما ما يعمل بطرائق غير مباشرة، فهو كيف يمكن للثقافة نفسها أن تكون، بحسب مقال الوزير، "أداة للسياسات الإمبريالية". ففي القلب من المعارك العسكرية يقدم بوتين نفسه على أنه المدافع عن القيم المحافظة ضد القيم الليبرالية أو"الزائفة" كما يدعوها، هنا تُعلن الثقافة كدافع الحرب كما أنها موضوعها. يصر الكرملين على أن الروس وأوكرانيا شعب واحد لا شعبان، يتطلب هذا إنكاراً لأن تكون للأوكران ثقافة خاصة، مَن يعرف شيئاً عن الكلاسيكيات الموسيقية الأوكرانية؟ فهناك ثقافة واحدة يعرفها الجميع، هي الروسية بالطبع.في خطبة تلفزيونية، يستشهد وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، بقصيدة لبوشكين، في سياق تبريره العمليات العسكرية في أوكرانيا. تتكرر الإشارة مرة أخرى للشاعر الروسي الأشهر، في لوحة دعائية في مدينة خيرسون، فقد رفعها الروس بعد احتلالهم للمدينة، تحمل صورة لبوشكين ونصاً يشير إلى علاقته بالمدينة الأوكرانية، فأي صك للامتلاك أكثر بلاغة من الشعر!دعوة المقاطعة الأوكرانية على الأغلب لن تحظى باستجابة كبيرة، لكنها، مع هذا، تنجح في لفت الانتباه مرة أخرى إلى أوجه الثقافة الملتبسة والمراوغة، بوصفها سلاحاً وتوسعاً وإمبراطورية، ومثالها الحرب التي يشنها بوتين. فمثلما ترتكن إلى ترسانة من الأسلحة، فهي تستند معنوياً إلى مواريث الثقافة الروسية وعقود من الروسنة. ونعرف أنه لا يسهل الانتصار في معركة الأفئدة على عدو محمّل بكل هذا التراث من الثقافة الرفيعة وقدرتها السحرية على الإقناع.انقطعت صلتي بتلك الأسرة الأوكرانية قبل سنوات، ولا أعلم إن كانت موسيقى تشايكوفسكي ما تزال تصدح في الشقة الصغيرة أم لا.