(*) هنا ترجمة لفصل من كتاب "نبيذ الحكمة"، عن عمر الخيام، في حياته، شعره وفلسفته... للمفكر الإيراني مهدي أمين رضوي (منشورات أوكسفورد).قليل من الشخصيات غير الغربية بلغ شهرة عمر الخيام في الغرب، فبعد قرن واحد فقط لم يكن شعره يُدّرس في المدارس والجامعات فحسب، لكنه اعتُبر ممثلاً للشرق بكل غرائبيته. ثقل عمر الخيّام في الغرب مزدوج، أولاً بسبب رباعياته، وثانياً بسبب أعماله العلمية خصوصاً تلك التي تتعلق بحقل الرياضيات، هذه الأخيرة على أي حال حجبها شعره.ثمة العديد من الأسباب لشهرته ولمكانته شبه الدينية في بريطانيا وأميركا تحديداً، فمن جهة، هناك الحرب العالمية الأولى في أوروبا والحرب الأهلية في أميركا، اللتان تركتا ندوباً عميقة في روح المجتمعات الغربية، لذلك ليس من المستغرب أن نرى أن رسالة الخيّام المعنية بالمعاناة والشر وجدت صدى عميقاً لدى الجمهور الغربي. ومن جهة أخرى، كانت المادية، العلمانية، والروحانية الانسانية كما تجلت في "المدرسة الانكليزية الجديدة للفلسفة المتعالية" في بداية صعودها. كانت الروح البيوريتانية للآباء المؤسسين تنداح بعيداً باتجاه رآه الأصوليون المسيحيون بمثابة صعود لوثنية جديدة. وهكذا أصبحت رباعيات الخيّام موضوعاً قويا للنقاش بين البيوريتانية المسيحية والعلمانية في الغرب. فبالنسبة للمدافعين عن المسيحية الغربية أصبح الخيّام رمزا لـ"الآخر"، الشاعر الوثني المُهرطِق العازم على ضعضعة البنية الأخلاقية للمجتمع بدعوته لمذهب المتعة. جادل حراس الأخلاق بأن الغرب عموماً وأميركا على وجه الخصوص كان يسقط في هاوية المادية ونتيجتها المحتّمة، أي المذهب المتعوي، بسبب انفتاحه على الأراء الأجنبية. كانت رباعيات الخيّام بمعنى ما هدفاً مثالياً لهم. فهو دعا بكل وضوح إلى شرب الخمر وممارسة الحب لأن لا حياة مؤكدة بعد الموت. لقد أصبح عدواً للمسيح بالنسبة للأرثوذكسية المسيحية، والبطل في الدراما بين المسيحية والعلمانية الغربية.
رباعيات الخيّام رددت صدى العلمانية في الغرب أيضاً. فقد تحدى الخيّام العقائد الدينية، ملمحاً إلى رياء الاكليروس، مثيراً الشك حول كل جانب من الطقوس الدينية تقريباً، داعياً إلى نوع من الانسانية. احتضن الغرب الجديد الخيّام ليس فقط بسبب الرباعيات، ولكن لأن الشرق احتوى حكمة ربما كان الغرب يفتقدها. الشرق الغرائبي تجسد في عمر الخيّام بالذات، كما تمثل في رباعياته، داعياً لحرية التفكير، متمرداً على الأفكار والمؤسسة الدينية، بينما يحيا روحانيته في الهنا والآن.الخيّام مهم أيضاً بسبب رؤاه العلمية. كان عبقرياً رياضياً، حفّزت سجلاته في الهندسة والجبر الكثير من الاهتمام بين الرياضيين الغربيين. طروحاته العلمية موجزة ولكنها ثورية، تُرجمت أعماله إلى لغات كثيرة، وتمت دراستها بشكل جدي من قبل الرياضيين الروس، الأوروبيين، والأميركيين. كان الخيّام مفكراً أصيلاً في الحقل العلمي وشارحا ومصدراً للكتابات الرياضية الإغريقية للعالم الاسلامي أيضاً. في حالة الهندسة الاقليدية، على سبيل المثال، قدم براهين رئيسة على المسلمات الاقليدية.كانت رباعيات الخيّام بالنسبة للغرب في القرنين التاسع عشر والعشرين إحياءً مُحدثاً للأبيقورية. لا بد انها كانت مثيرة للاهتمام بالنسبة للجمهور الفكتوري الذي رأى أن الانسانية ثمرة عصر النهضة، ليكتشف أن المعلم الحكيم من الشرق كان يدعو إلى الشيء ذاته. كانت الأسطورة تؤكد مرة أخرى أن حكماء الشرق قد عرفوا كل ما اكتشفناه في الغرب للتو! كان الخيّام مرآة رأى فيها الغرب نفسه، هؤلاء الذين أحبوا ما رأوا مدحوه، وأولئك الذين لم يحبوا لاموه على التحلل الاخلاقي للمجتمعات الغربية.ثمة سوء فهم لطبيعة فكر عمر الخيّام، ربما بسبب غياب طبعة مفردة باللغة الانجكليزية مخصصة لنقاش شامل لفكر هذه الشخصية المركبة. بدا عمر الخيّام بطريقة ما نبياً لمذهب المتعة، للإلحاد، والملحدين، تمت الاشادة به من قبل أخرين كمفكر حر، "فولتير الشرق" الخاص بالعالم الإسلامي والذي جعلته رؤاه الساخرة عن الدين بطل القرنين الأوروبيين الثامن والتاسع عشر. هذه الصورة النمطية لهذا العالم والفيلسوف العظيم، الذي أُطلق اسمه على الكثير من الملاهي الليلية في الغرب مزيفة بشكل كامل. هذه الصورة عززّها الإحساس الفيكتوري بالمفاهيم الغرائبية، الرومانتيكية وغالباً الجنسية المرتبطة بالشرق، مفاهيم مثل أن شعر الخيّام يحتفل بالخمر والنساء تميل لتصبح أقوى. تقديم مفكر جاد مثل عمر الخيّام للقارئ الغربي، وتعويضه عن صورته المشوهة، يبقى هدفي الأساسي.كشف استطلاع أدبي في حقل الدراسات الخيّامية عن عدة شروحات متمايزة إن لم تكن متناقضة، يقبض كل منها على روح جانب واحد من جوانب هذه الشخصية الشاملة. هل كان الخيّام هو الملحد – المتعوي للفترة الفيكتورية كما قدمه شارحه ومترجمه إدوارد فيتزجيرالد، أم كان ذاك المسلم الناسك كما أفاد عنه بعضٌ من كتاب سيرته، بمن فيهم زوج ابنته إمام محمد بغدادي؟ أو ربما، كما يقترح البعض كان هناك أكثر من "خيّام"، والخيّام الرياضي والفلكي يُساء التمييز بينه وبين شاعر ومعلم روحي بالاسم نفسه.(ضريح الخيام نيشابوري في نيشابور، إيران)بينما يجري تفصيل هذه التأويلات فإن عرضاً موجزاً لها هنا سوف يساعدنا في وضع نقاشات كهذه في سياقها الصحيح. إذاً من كان الخيام؟ هل كان الخيام ملحداً- متعوياً؟لهذا الرأي العديد من المؤيدين في الشرق والغرب على السواء. نعزو الكثير من هذه التفسيرات إلى إدوارد فيتزجيرالد الذي أشعلت ترجمته الحرة والبليغة للخيّام الروح الرومانتيكية للعهد الفيكتوري وكذلك بعض الرؤى والآراء في حلقات معينة في الجزء الشرقي من العالم. هناك بالتأكيد تقليد طويل من رؤية الخيّام كملحد قادت رؤاه المتشككة حول الحياة إلى نوع من المتعوية. لا حاجة للقول إن العديد من رباعيات الخيّام تعطي المصداقية لوجهات نظر كهذه إذا ما جرى تناولها بشكل حرفي.تأويلات كهذه للخيّام مُضلِلة ببساطة، إذا ما درس المرء فضلاً عن رباعياته أعماله الفلسفية التي يجري عادة تجاهلها كلياً من العلماء الغربيين. على العكس من الرباعيات (المشكوك في مصدر تأليف بعض قصائدها) فإن أعماله الفلسفية والعلمية تعود له بشكل قاطع، وتبدأ كل منها بمديح وتسبيح الله والنبي محمّد، وتنتهي بالتسليم والصلوات. علاوة على ذلك، فإن النسيج الداخلي لفكره الفلسفي الذي حظي على العموم بالقليل من الاهتمام في الشرق والغرب معاً، يشير بوضوح إلى أن الخيّام كان يعمل بكفاءة ضمن النسق الفلسفي التوحيدي تماماً مثل سلفه ابن سينا الذي يدعوه "معلمي". فوق كل ذلك، هناك اليوم الأخير من حياته، مشهد موته، إذ توضح الشهادات أن الخيّام أدى صلواته الإسلامية طوال اليوم قبل أن يموت.نظرية "الخيّامان"قبل عقد من الزمن، جادل العالم الإيراني البارز، محمد حسين طبطبائي، في عمل تحت عنوان Khayyam ya Khayyami أن هناك أكثر من خيّام، وأن الخيّام الفلكي ملتبَس بالخيّام الشاعر. جادل طبطبائي أن الإختلاف بين الطبيعة التوحيدية للفكر الخيّامي كما انعكست في طروحاته الفلسفية وبين الميول الإلحادية – المتعوية التي تجلّت في الرباعيات يشير بوضوح إلى أن هذه الأعمال تنتمي إلى أشخاص مختلفين. قدم طبطبائي دليلاً نصياً وتفصيلياً شاملاً في هذا الصدد. حظي هذا الرأي ببعض القوة في السنوات الأخيرة، بينما نمضي لنتعرف أكثر على ما تبقى من الخيّامات. على سبيل المثال كان هناك أبو صالح خليفة خيّام الذي ينحدر من بخارى، التي أصبحت مع الوقت جزءاً من خراسان، الثاني كان محمد ابن علي الخيّامي العراقي من مازدران بالقرب من بحر قزوين. أليس من الممكن أنه لم يتم التمييز بين أشعارهم وبين أعمال عمر الخيّام. في عام 867 حرر أحمد رشيدي تبريزي ستمائة رباعية، قد تكون مكتوبة من قبل كل هؤلاء الخيّاميين وعنونها Tarabkhanah ما أضاف المزيد من الإرتباك إلى كامل حقل الدراسات الخيّامية.(شاعر الحب)ثمة جدل آخر ينحاز إلى هذا الموقف. لم ينتقد أي شخص بهذه الصراحة في الحوليات الأدبية الشعبية الإسلامية كل جوانب الحياة الدينية وبقي حياً ليصبح عجوزاً مثل الخيّام. هذا يجعل من الخيّام تقريباً رمزاً متفرداً، من الجيد جداً أن يكون حقيقياً. ليست المسألة أنه عاش في فترة أكثر ليبرالية في التاريخ الإسلامي ولا أنه عاش في جزء بعيد من العالم الإسلامي، أياً يكن ما عاشه تحت العيون اليقظة للفقهاء المغالين في التشدّد، مثل أبو حامد الغزالي الذي لم يكن في سنوات حياته الأولى يعترف بالمتصوفة، فالسؤال المطروح :"إن كان الخيّام قد كتب الرباعيات، فكيف تمكن من النجاة بها"؟باستثناء أبو العلاء المعري، لا أعرف شاعراً آخر نجا بينما كان يعظ متشككاً، ملحداً وموحداً ثم مات بطريقة طبيعية. النجاة والازدهار الإعجازيين للخيّام عززّتا نظرية أنه قد يكون هناك أكثر من خيّام، كان واحداً على الأقل من بينهم شاعراً كما يبدو.هذه المقاربة مُضللة أيضاً كما سأثبت، ليس بسبب تبنيها من قبل أقلية من العلماء، ولكن بسبب العدد الطاغي من السير الذاتية التي عرّفت الخيّام الفلكي والرياضّي على أنه الشخص ذاته الذي كتب على الأقل بعض من الرباعيات.الخيام المتصوفهناك من حاول أن يجد جواباً لإلحاد الخيّام الجلي كما ظهر في رباعياته بتأويل شعره ضمن السياق الصّوفي. تبعاً لذلك، كان الخيّام هو الباطنّي الذي اعتمد على المجاز، الاستعارة والمعاني الرمزية، وإذا ما فُهمت رموزه النخبوية على نحو صحيح، مثل العديد من معلمي الصوفية العظام، يبرز خيّام مختلف يُبهر تمكنه الغنوصي والعرفاني عقول الذين هم على ألفة مع التقاليد الروحية للصوفية.هناك بعض الصحة في هذه النظرية، إذا ما أخذنا في الاعتبار التصريح الذي لا لبس فيه للخيّام نفسه في عمله "عن معرفة مبادئ الوجود":"المتصوفة هم الذين لا يبحثون عن المعرفة ذهنياً أو منطقياً ولكن بواسطة تطهير ذواتهم الداخلية وتشذيب أخلاقهم التي تطّهر أرواحهم المدركة من شوائب الطبيعة والجسد الفيزيائي. عندما يُطّهر الجوهر "الروح" ويصبح إنعكاساً للعالم الروحي، تصبح الأشكال في تلك الحالة سافرة حقاً دون أدنى شك أو التباس. هذا الطريق هو أفضل الطرق جميعاً".على الرغم من دعم الخيّام الواضح للطريق الصوفي، فإن رؤيته كمتصوف فقط هي إساءة عظيمة لحقل الدراسات الخيّامية وهي عائق أمام بروز رؤية أكثر شمولية لهذه الشخصية العملاقة. اعتماداً على الدلائل الحالية، لم يكن للخيّام معلم روحي ولم ينتم لطريقة صوفية ما، كما لم توثق أي من سيره الذاتية انتماءه الصوفي. لذلك من المنطقي الاستنتاج أنه حتى لو كانت لديه ميول صوفية، فإنه لم يمارس الصوفية. أخيراً، فإن تصريحه بأنه يعتبر نفسه تلميذاً لابن سينا وأطروحاته الفلسفية المكتوبة بالأسلوب الأرسطي لا تسمح لنا أن نضعه مباشرة في معسكر المتصوفة. من الواضح أنه كان قريباً من المتصوفة ومن النخبة، لكن على المرء أن يقرأ رباعياته إلى حد بعيد، كما فعل بعض من علماء العصور الوسطى والحديثة ليراه كصوفي فقط. في كلتا الحالتين، من الآمن افتراض أن الخيّام لم يكن متصوفاً كالحلاج أو الرومي.الخيّام، المُسلم الوَرعالتأويل الآخر الذي حاول إنقاذ الخيّام وترميم مكانته وصورته من تهمة الهرطقة، هو التأويل الأكثر راديكالية الذي حاول تبرئته حتى من كتابة الرباعيات. هناك من حاول أن يميز بين الخيّام الورع وبين الشاعر المهرطِق الذي يحمل نفس الإسم، لذلك نأوا بالرياضّي الفلكي المتدين عن هؤلاء الذين نسبوا ما يسمى بـ"الرباعيات" إليه. رأى المدافعون عن هذا المشروع، بطريقة ما، أن هذه المحاولة طريقة أخرى لإنقاذ احد الأبطال الثقافيين للفرس وليحافظوا على نقاء إيمان الخيّام. لكنهم كانوا في الواقع يؤبدون سوء فهم آخر لمفكر رائد تجاوزت رؤاه المّركبة المنطق والإيمان، شخصية لا يمكن موضعتها ضمن نموذج بسيط لثنائية "إما/أو". هذا الرأي، الذي سوف أوضحه، مُضلل ببساطة ومبني على مقاربة أحادية لأفكار شخصية موسوعية بحق.الخيام الفارسيإن نقاشاً يتناول الخيّام لن يكون كاملاً دون الإشارة إلى انتماءه المزعوم إلى الحركة القومية الفارسية المعروفة باسم الشعوبية. لقد قيل ان الخيّام كان عضواً في النخبة الفارسية المُحبطة والخائبة من الحقيقة المتمثلة في أن حكاماً غير فارسيين حكموا بلاد فارس لفترة طويلة من تاريخها منذ الفتح العربي في أوائل القرن السابع، هؤلاء الأجانب لم يكونوا متطورين بما يكفي ليقّدروا التراث الثقافي الفارسي. استمر هذا الوضع حتى زمن الخيّام عندما تولت السلالة السلجوقية التركية زمام الأمور في بلاد فارس. قيل إن الخيّام شارك مع العديد من المثقفين الفرس المعتبرين مثل الشاعر الفردوسي في إحياء التقليد الثقافي الفارسي الأصلي.هذا التأويل يرى إلى الرباعيات على أنها تجريد للمبادئ المركزية للعقيدة الإسلامية وموضوعاتها الرئيسية التي بُني عليها هذا الدين الساميّ من أسطوريتها. فالخيّام لم يستجوب فقط المبادئ المركزية مثل الملائكة، انتهاك القانون الديني، الحياة بعد الموت والغائية من الخلق، ولكنه فعل ذلك أيضاً بطريقة ساخرة مما يدل بقوة على نزوعه القومي. ما من شك أن الخيّام كان فارسياً فخوراً، عارفاً بالمثقفين الفارسيين وبالإسهامات الثقافية للحضارة الفارسية، كما كان مسلماً ممارساً، لكن أن ننسب الغلو القومي بالمعنى الحديث للكلمة إلى شخصية من القرون الوسطى يضّيع المعنى كليّاً. كان الخيّام مفكراً عميقاً جداً مهجوساً بالمعضلات الوجودية ليفكر بالقومية، وهي الشكل الضمني من العنصرية. كان تجسيداً للمسلم الفارسي، فخوراً وواعياً لتراثه القديم كما تبدى من خلال محاولته الحفاظ على الأسماء البهلوية للأشهر في مفكرته الجديدة. كان أيضاً مؤمناً كما هو واضح في كتاباته الفلسفية، كما أنه بقي على شيء من التمرّد ضد الراديكالية، الميزة البارزة للمثقفين الفارسيين وللأدب الصوفي.الخيام الحكيمإن مرافعتي هي أن الخيّام الأسطوري كان فيلسوفاً حكيماً، براغماتياً روحياً ذي مكانة عالية، مثل بعض أسلافه كالفارابي وابن سينا، زودنا بخميرة حكمته. تمخض قلمه الواعي، ذكاؤه المتوقد وبحثه العنيد عن إجابات للمسائل الفلسفية والوجودية عن شخص ينضح رحيق حكمته من كل خلية من كينونته الفلسفية والسياسية.لم يكن الخيّام ممارساً صوفياً، لكنه لم يعارضها، لم يكن مسلما راديكالياً، لكنه مارس الإسلام ودعم القانون الديني (الشريعة)في حياته الشخصية، كما لم يكن عالماً فقط مثل البيروني والخوارزمي، حيث أنه بقي واعياً لحقول أخرى في المعرفة. كان الخيّام مثالاً لأفضل هبة يمكن ان يمتلكها إنسان –العقل الفيّاض- والتي طبقها بمهارة في أعماله العلمية. في الوقت ذاته وصف تطبيق الحكمة (Sophia) ليس بالمعنى العقلاني الضيق فقط، ولكن من خلال صلتها بالحياة والمعضلات الوجودية التي يواجهها الإنسان. كان الخيّام فيلسوفاً ورباعياته وثيقة فلسفية عن الحياة والشرط الإنساني. لم ير الخيّام التساؤل والحيرة نقيضين للإيمان، ولكنهما كانا فضلا عن ذلك جزءاً من نهج الكينونة الإنسانية، نهج لا نهائي من التفكر بين قطبي الوجود البشري، الإيمان والعقل.(الصوفي) بالرغم من كل النصوص المتاحة ومصادر السير الذاتية، فإن رداً حاسماً ومؤكداً على السؤال بخصوص البحث عن "الخيّام التاريخي الحقيقي" ليس ممكناً ولا حصيفاً من أجل مقاصدنا. نحن نعمل بناءً على أساس كمية من الأدلة غير الكافية مع الأخذ بعين الاعتبار الكثير مما قيل حول الخيّام، حتى لا نذكر القصص المتناقضة حوله. أميل إلى الرأي، أنه لا يمكن للمرء بناء على الأدلة الموجودة، المبنية أساساً على عدد من الأشعار الزائفة المنسوبة للخيّام، أن يوّصف على وجه اليقين شخصية "الخيّام التاريخي" وفكره الحقيقيين. ما يمكن قوله، على أي حال، ان نموذج "إما /أو" كطريقة لمقاربة الخيّام –سواء كملحد- متعوي أو كمسلم ورع أو كمعلم صوفي عظيم- يمثل وجهة نظر مُضللِة يمكن دحضها.أصبحت الدراسات الخيّامية ضحية للرومانسية الفيكتورية من جهة وللمنظور الثقافي والديني الفارسي الذي يكون فيه المرء إما مسلماً متديناً أو ملحداً من جهة ثانية. العبقرية الخيّامية المتفردة وشخصيته المركبة هي ببساطة أعقد جداً من حشرها ضمن نموذج "إما/أو" أو أي بنية فكرية جاهزة. إن هذه الطبيعة الخيّامية ذات الوجوه المتعددة على وجه التحديد هي التي سمحت للعديد من الناس الإدعاء أن الخيّام هو بطلهم الشخصي، لكن الواقع –حتى لو عنى ذلك انتزاع البطل الثقافي للفارسيين من أيديهم- أن الخيّام قد يكون كل ما قيل عنه. ربما كان ملحداً في بعض الأوقات، وفي أوقات أخرى كان ورعاً، حتى أنه قد يكون هناك لحظات تجاوز فيها كل من الإيمان والعقل. الخيّام حتماً ليس الحالة الأولى لمفكر قلق يُعذبه صراعه مع الأسئلة الثابتة ذات الطبيعة الوجودية المطلقة. تمت رؤية تعبيره الشعري، بشكل طبيعي، من قبل البعض كلاهوت للإحتجاج، كرثاء عالي النبرة للضياع، ومن قبل آخرين كقشرة خارجية لمعنى كامن أكثر عمقاً. يذّكرنا أحد أتباع الخيّام الأميركيين J.Brigham: "بالنسبة لأحدهم، هو ليس أكثر من أحد سكيّري الحانات، لآخر، هو شاعر مشبع الروح بالفلسفة الأبيقورية، لثالث هو ملحد وثني يحّدق عبر ضباب الوجود في بحث عقيم عن الله، ولرابع أيضاً هو امرؤ مشتت الذهن يصيح من ألم معاناته ‘مولاي، أنا مؤمن، ساعدني كي أفقد إيماني".وأخيراً، ثمة السؤال الشائك المتعلق بأصالة شعر الخيّام، وهي مادة جديرة بالدراسة بين العلماء المختصين بالخيّام والأدب الفارسي عموماً. فبالرغم من كل الطرائق والتقنيات التي طورها العلماء، فإنه من الصعب عملياً أن نميز بين الأشعار الأصيلة والأشعار المزيفة. بينما من الناحية المثالية قد يكون من الحكمة أن يكون لنا مدخل إلى رباعياته "الحقيقية". أنا مع الرأي القائل أنه بتركيزنا على سؤال عدم الأصالة، نفقد رسالة الخيّام المتوارية في قلب الرباعيات. طرح الراحل هنري كوربان، أحد العلماء الغربيين البارزين المختصين بالإسلام في حوار مع العالم الشيعي العظيم العلامة الراحل الطبطبائي، سؤالاً يتعلق بعدم أصالة سفر نهج البلاغة للإمام علي، أجاب العلامة بقوله "من كتب نهج البلاغة، بالنسبة لنا، هو علي". أحب أن أتبنى هذه المقاربة الظاهراتية نوعاً ما وأقترح أن من ألّف الرباعيات هو الخيّام بالنسبة لنا.(عمر الخيام بريشة أديلايد هانسكوم ليسون 1905)يبقى الواقع أن لدينا عدداً كبيراً من الرباعيات تُنسب إلى رجل يُدعى عمر الخيّام. يمكننا أن نُغرق أنفسنا بمناقشات لانهائية عن عدم أصالة هذه الأشعار أو أن نقف ونعود القهقرى لننظر وراءنا. المهووسون بالمنهج النصي التاريخي ممن يرون بعض القيمة بإيجاد "الخيّام الحقيقي"، سيشعرون بالخيبة بلا شك تجاه العمل الحالي بما أنه بدأ بالسؤال التالي: إن كان هناك ما يُفترض به أن يكون عمر خيّام ما والذي كان كاتب الأطروحات العلمية ومعظم الرباعيات في آن معاً، ما نوع الشخص الذي كانه؟ هل إعادة بناء هذه الشخصية نصف الأسطورية، نصف الحقيقية ممكنة بالاستناد إلى كل الدلائل المتوفرة؟ وهل أن محاولة ما لقراءة ما بين السطور من أجل استخراج بعض من العبق الأصلي للفكر الخيّامي ممكنة، مع الأخذ في الاعتبار واقع أن العديد من الرباعيات ليست له؟ وأخيراً، إذا ما سلمنا أن الكثير من الرباعيات التي نستشهد بها في هذا العمل ليست خيّامية، ألا تكشف شيئاً عن روح "الخيّام الحقيقي"؟ بينما أفكر أن القيام بهذا الأمر ممكن وحصيف، فإن امرأ ما قد لا يدّعي ذلك مطلقاً.البحث عن الخيّام التاريخي على ضوء الشواهد الموجودة محاولة عقيمة ينبغي التخلي عنها لصالح أسلوب أكثر فائدة في حال جرى تبنيه بشكل ملائم، وجرت معالجة الأسئلة من قبيل، لا من كان الخيّام، ولكن ما هي رسالة الرباعيات التي بين أيدينا؟ هذا الأسلوب يعّلق البحث عن الرسول من أجل فتح الباب لتلقي الرسالة، وهو أسلوب مناسب لشاعرنا الغامض. يُشار إلى هذا الأسلوب غالباً بأنه مقاربة فينومولوجية نتخلى فيها عن البحث عن "الخيّام التاريخي الحقيقي" ونشدّد على المواجهة المباشرة بين ما هو متاح، أي الرباعيات، وبين قرائها على مدار العصور. من الصحيح أن هناك بعض الأشعار خيّامية، بينما هناك أشعار أخرى، يفوق عددها عدة مئات، غير أصيلة بشكل واضح. على الرغم من هذا، بعض الرباعيات التي تُعتبر غير أصيلة على نحو واسع تحتمل الشبه مع تلك التي تسمى أصيلة في الشكل والمحتوى معاً. حتى على الرغم من أن معظم هذه الأشعار جرت صياغتها لاحقاً ونُسبت إليه، فإن "الشبه العائلي" بينها يتيح لنا أن نستنتج التالي:1. يمثل الخيّام مدرسة فكرية، رؤيا للعالم، صوت ناقد ضد ما اعتبره عالم غير عادل بنيوياً. وجد العديد من الناس فيه صوتاً يحتاجون سماعه، وبعد قرون من موته، أصبح أداة تعبير لهؤلاء الذين كانوا يختبرون نفس المحاكمات والمحن مثل الخيّام ويوحدهم الخوف من الاضطهاد.2. يمثل الخيّام، وبما يتجاوز شخصه، رؤيا للعالم لم يكن لها تقليدياً مكان بارز في الكون الديني الإسلامي. وُضعت العدالة الإلهية جانباً في الجدل اللاهوتي الإسلامي في الفترة الأولى وحتى لتثير مسألة وجود الشر بوصفه علامة ضعف في الإيمان. لم يكن لدى الخيّام مشكلة في إثارة المسألة وتأملها مستخدماً حريته الشعرية.أصبح الخيّام صوت العديد من الشعراء الذين لا صوت لهم، الذين خافوا الاضطهاد، والذين استخدموه كدرع، وكحجاب. هؤلاء الشعراء الذين يشاركون الخيّام الرؤى وجدوا فيه أسلوب التعبير المناسب الذي يمكنهم أن يلوذوا به. لذلك، لا يجب تصوير خيّامنا على أنه شخص تاريخي فقط، ولكن أيضاً كمدرسة للفكر، تُظهرُ، كلما أمكن استجوابها، تعارض العقل والإيمان، الإذعان والتساؤل كلاهما في آن معاً. هذا المفكر الفريد قام بمحاولة مخلصة ليس للتوفيق بين العقل والإيمان ولكن للاعتراف بهذين القطبين المتناقضين للوجود البشري، بالصراع الأزلي بين القلب والعقل. لم يكن سؤاله كيف يمكن التوفيق بين هذين الحوارين، ولكن كيف يمكن للمرء أن يعيش متوتراً بينهما دون التنازل للأجوبة الجاهزة أو السقوط في العدمية والهرطقة.أخيراً، وبالاعتماد على مزيج من طرق النقد النصي التاريخي حيث كان ذلك ممكناً، ومن الظاهراتية "الفينومونولوجية" حيث كان ضرورياً، يمكننا تقديم رؤية أكثر توازناً للرسالة الخيّامية من دون توريط القارئ في النقاش العلمي الطويل والمرهق والذي يهتم بالأسئلة المفتوحة مثل تلك التي تنظر في أصالة الخيّام وهويته. لنفس السبب تجنبتُ تقديم نقاش يتناول طبعات مختلفة من الرباعيات متناثرة في مكتبات إيران والدول الغربية. كنت متشدداً في إنتاج عمل يقدم للمرة الأولى صورة شاملة عن رمز تاريخي أصبح معروفاً فيما بعد بعمر الخيّام.