لسنوات طويلة، اشتهرت آخر روايات الكاتب الإنكليزي د.هـ.لورانس، "عشيق الليدي تشاترلي"، بسبب الجدل الذي أحدثته أكثر من أي شيء آخر. قبل عقود، اعتبرتْ "إيروتيكية جداً" وحُظرت في العديد من البلدان.
الرواية، المطبوعة للمرة الأولى في العام 1928 على نفقة المؤلف الخاصة، تمتّعت منذ بدايتها بسمعة سيئة، أولاً مع الرقابة (حُظرت في إنكلترا والولايات المتحدة)، ثم مع النسويات، وبالطبع مع الساسة المحافظين.
في الولايات المتحدة، كتب سيناتور جمهوري مقالاً في العام 1930 وصفها بأنها "رواية فاحشة كتبها رجل يملك عقلاً مريضاً وروحاً شديدة السواد لدرجة تحجب ظلام الجحيم".
إلى أن جاء العام 1960، أي بعد 30 عاماً من وفاة لورانس، وأضحت الرواية متاحة رسمياً للتداول داخل المملكة المتحدة، بعد محاكمة مشهودة دامت ستة أيام (بتهمة نشر الفاحشة) وانتهت باقتناص دار نشر "بنغوين" حكماً تاريخياً فتح الباب للعديد من المؤلفين لأخذ حريتهم في كتبهم، الأمر الذي انعكس بدوره في فنون أخرى. لكن حتى بعد هذا الحُكم التاريخي، ورواجها الفائق بين القرّاء، تعرّضت الرواية لهجوم نوعيّ متخصّص من قبل ناقدات نسويات، باعتبارها نموذجاً "للوعي القضيبي"، ووفقاً لهذا المنظور يغدو احتفاء الرواية المنادى به بالنشاط الجنسي في جوهره، احتفاء بالقضيب، بالحارس الفحل الذي يفتح عيني سيدته على مباهج اللذة. عبر كل هذه العمليات والمراحل، اتفق الجميع تقريباً على الرواية باعتبارها محرّضة جنسياً (أو مستفزة، على حسب رؤية كل فريق).
وبسبب شهرة الرواية ووفرة الإثارة في موضوعها، لم يكن صعباً ظهور العديد من التكييفات السينمائية والتلفزيونية المستندة إليها. إلا أن معظمها كان ضئيل التأثير والقيمة (باستثناء الفيلم الفرنسي من العام 2006 للمخرجة باسكال فيران)، فيما قاربها البعض الآخر من جانبها الإيروتيكي حصراً، كما في ذلك الفيلم الذي قامت ببطولته سيلفيا كريستل، نجمة سلسلة الأفلام الإباحية "إيمانويل". وهكذا، فالنسخة الجديدة من إنتاج "نتفليكس" وإخراج الفرنسية لور دي كليرمون تونر، تكاد تكون أول فيلم سائد mainstream ويسهل الوصول إليه من الرواية الشهيرة.
يتعلّق الرهان هنا برؤية ما إذا كانت الإيروتيكية الصريحة التي تمتلكها الرواية، والتي يندر وجودها شيئاً فشيئاً في السينما المعاصرة، قد نجت أثناء عملية تكييفها في إطار منصّة البث الشهيرة.
والحقيقة، أننا لا يمكننا فقط القول بنجاتها، بعيداً من اختلاف تعريف الفاضح في الثلاثينيات عنه في زمننا، على أي حال، لكن الفيلم يعمل بشكل جيد أيضاً، ويحترم ناموس الرواية من دون المبالغة أو التقليل من محتواها الجنسي "المثير للجدل".
ربما، بعد نجاح مسلسلها "بريدجرتون"، أدركت المنصّة أن هناك سوقاً لإنتاج قصص الحقب الزمنية المشحونة جنسياً. هذه النسخة الجديدة تحوي أفضل ما في المسلسل الشهير، وتستغني عن مزاج "صحوته" وصوابيته السياسية، وفوق هذا، تحمل نبرة نسوية لا تخطئها عين.
علاقة مع حارس المزرعةيروي "عشيق الليدي تشاترلي" الذي يُعرض حالياً في "نتفلكس"، قصة "الليدي" المعنيّة، وهي امرأة شابة من عائلة بوهيمية وفنّانة اسمها كونستانس ريد (إيما كورين، التي جسّدت ليدي أخرى في الموسم الرابع من مسلسل "ذا كراون") تزوّجت من السير الأرستقراطي كليفورد تشاترلي (الوافد الجديد ماثيو دوكيت) في إنكلترا أوائل القرن العشرين. في اليوم التالي لزفافهما، يغادر زوجها للقتال في الحرب العالمية الأولى، فقط ليعود على كرسي متحرك.
وفيما لا يبدو أنه يعاني من الاكتئاب أو أي نوع من متلازمة ما بعد الصدمة، يوضّح لزوجته أنه لا يريد وليس مهتماً بأي نوع من النشاط الجنسي معها. لكن بما أنه يعلم أن كونستانس تريد إنجاب الأطفال، يقدّم لها اقتراحاً يدفع بالصراع الأساسي للقصة: أن تمارس الجنس مع رجل في الخفاء (لا يريد أن يعرف هويته أو أن يصل خبره إلى مسامع وألسنة المعارف والجيران)، وإذا حملتْ، سيقولان أن المولود ابنهما.
على مضض في البداية، ينتهي الأمر بقبول كونستانس "المهمّة". وسرعان ما بدأت في الاهتمام بأوليفر (جاك أوكونيل)، حارس المزرعة. رجل جادّ، مجتهد في عمله، مثقّف بشكل مذهل (بالنسبة إليها)، ومن حيث المبدأ، يرفض أي تجاوب مع "سيدته". لكن في مرحلة ما، تنهار المقاومة ويبدأ الاثنان في علاقة محمومة تنتقل من الجنس إلى الرومانسية وتظهرها المخرجة الفرنسية بصراحة احتفائية، على نحوٍ يبدو السينما السائدة قد هجرته اليوم. إنه ما كان يمكن اعتباره في حقبة أخرى فيلماً ساخناً، مع عريّ كامل ومشاهد جنسية واقعية تضفي على العلاقة كثافة وحدّة لا يمكن لوضعٍ "محسوب" أن ينقلها.
على عكس الرواية، يترك الفيلم في الخلفية الصراعات الاجتماعية والاقتصادية الفاصلة بين ثالوثه الرئيسي والتي ميّزت ذلك العصر. لا يهملها بالكامل، وإنما يقدّمها على استحياء، وحتى إنها في لحظة معينة من الحبكة تغدو ضرورية لتقلّبات القصة وقرارات الشخصيات، إلا أن المحور يمرّ بشكل أساسي من خلال العلاقة بين "السيدة" المعنية وعشيقها. تمكين نسائي
في الخلفية، تظهر عواقب التغييرات الاقتصادية: وصول التحديث الصناعي الذي يقود كليفورد إلى الرغبة في طرد الموظفين، والمطالب الاقتصادية لعمّال المنجم، والموقف الوسيط غير المريح نسبياً الذي تجد البطلة نفسها متورّطة فيه.
بصرف النظر عن ذلك، فإن أبرز ما تمكّنت كليرمون تونر من نقله، عبر كاميرا قريبة دائماً من الشخصيات وتهتز مع شدّة علاقتهم، هو فورية/راهنية تُخرج الفيلم من إطاره النموذجي كقصة تروي أحداث حقبة ماضية. وهي تحقق ذلك من دون الحاجة إلى إضافة "غمزات" زائدة لتحديثه، لا في طريقة التقديم ولا في الحبكة نفسها، وهو أمر يتكرر كثيراً في الاقتباسات السينمائية الأخيرة للروايات "الرومانسية" من تلك الفترة، وأحياناً تتحوّل بالغصب قصصاً عن التمكين النسائي.
يساعد التصوير السينمائي للمخضرم بينوا ديلوم أيضاً في إعطاء القصة قوّتها، ليس بالضرورة من لقطات كلاسيكية جميلة للقصر العائلي الضخم (جماله أمر أكيد، لكن هنا لا يؤكّد عليه مراراً وتكراراً) وإنما من الاتصال والحميمية التي تربطها بالأبطال، خصوصاً في المشاهد التي يمكن اعتبارها اليوم "جريئة".
من دون أن يكون فيلماً رائعاً (قصص العلاقات المحرّمة بين زوجة السيّد وأحد موظفيه شوهدت مراراً وتكراراً في مئات الأفلام والمسلسلات)، ما زال هذا الإصدار من "عشيق الليدي تشاترلي" قادراً على موضعة نفسه في نقطة وسيطة بين السينما عالية الجودة والفيلم الإيروتيكي التقليدي. يساعد الممثلون في هذا (كورين، على وجه الخصوص، تقدّم أداءً لافتاً يذكّرنا بكيت وينسلت في بداياتها) وإلى حد ما شهرة الرواية الأصلية القائمة بالأساس على "إثارتها"؛ ليستقر الفيلم أقرب ما يكون إلى دعوة وازنة لمعرفة إلى أي مدى تجرّأ صانعوه على احترام وأفلمة بعض مشاهد الرواية التي أفزعت الرقابة وأثارت حفيظة الرافضين.
نعم فعلوها، في قصّة حبّ سريّة ملتهبة تدعو المشاهدين للتأمّل في حسّية الرغبة الأنثوية من دون الشعور بالذنب أو الخجل، بما يربطها بصلة قرابة متينة مع فيلم حديث آخر هو "حظاً طيّباً ليو غراند"، ليشكّلا معاً ما يشبه ثنائياً سينمائياً حول جمال ولذّة النشاط الجنسي البشري. فرغم أنه من غير المحتمل أن يصاب أحدهم بالصدمة اليوم لمرأى جسدٍ عارٍ أو بعض المشاهد الجنسية، مع الأخذ في الاعتبار العناية المفرطة المتخذة أثناء تصوير وعرض مثل هذه المواقف في السينما، يبقى الرهان موضع تقدير.
أخيراً، يبدو توقيت عرض النسخة السينمائية الجديدة من الرواية الإشكالية، مفارقاً ودالّاً، خصوصاً في السياق الأميركي. ففي حين لا يكفّ الجمهوريون المحافظون عن نبش المكتبات الرسمية والمدارس للتخلّص من الكتب "القذرة"، يأتي ظهور "عشيق الليدي تشاترلي" في "نتفليكس" كتذكير بأن الرقابة، مثل الشهوة، لا تكتفي أبداً.