لم يعدْ مجدياً "النق" بشأن معرض بيروت للعربي الدولي للكتاب، فما آل إليه هو انعكاس طبيعي وبديهي للتحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية التي طرأت على لبنان والمنطقة وعالم والنشر وعالم القراءة نفسه...
في زمن غابر، كانت بيروت التعدّدية الثقافية تتغنى بحريتها وتياراتها الفكرية وتشكّل واحة التقاء للمثقفين والشعراء والكتّاب، يقصدها العرب من مختلف العواصم للاطلاع على جديدها، "كانت بيروت تنشر التفاؤل، حتى الناس الأكثر حرمانا فيها كانوا يرونها واعدة" بحسب تعبير الراحلة مي غصوب، كانت بيروت صانعة الكتّاب والشعراء والمثقفين، خصوصاً في مرحلة من منتصف الخمسينيات إلى منتصف السبعينيات في بداية الحرب، حتى في مرحلة التسعينيات بعد الحرب، عاشتْ شيئاً من مجدها الغابر... اليوم، بعد تراكم الأزمات، لم تعدْ بيروت مقصداً للحالمين العرب(ربما تتبدّل الأحوال لاحقا)، ولم تعد "باريس الشرق"، اشتدت المنافسة بين العواصم والمدن المشرقية والخليجية، كلها تتسابق على أقامة المعارض الضخمة (الشارقة، مسقط، جدة، الكويت، من دون أن ننسى القاهرة وبغداد) وتستقبل نجوم الثقافة العالمية وتعطي الجوائز الكبيرة، وسط قاعات فيها شيء من الابهار، وتتلقى الدعم السخي من حكومات بلادها، وهي الحكومات نفسها (السعودية والكويتية والعمانية وغيرها)، بقيت حتى وقت قريب تختار أجنحتها الكبيرة في واجهة معرض بيروت كدعم فحسب، ومنذ سنوات امتنعت عن المشاركة بسبب الخلل السياسي بين لبنان وبلدان الخليج... عدا ذلك باتت الدول الخليجية تقيم معارضها، وليست بحاجة إلى معرض بيروت، والكثير من الناشرين اللبنانيين وغيرهم، الآن يفضلون الذهاب الى معرض جدة(السعودي) أو معرض بغداد(العراقي) من 7 الى 18 ديسمبر/ كانون الأول، على أن يشاركوا في معرض بيروت، فـ"الفريش" دولار هو المقرّر في النهاية، وهو أساس الاستمرارية، وأساس صناعة الكتاب.وعلى هذا، يصبح معرض بيروت كأنه موجّه للبنانيين فحسب أو مجموعة من اللبنانيين، وبدا في نسخته الأخيرة كأنه يعود إلى الصالة الزجاجية في شارع الحمرا لناحية حجم المساحة المعطاة له، فسبق أن ذكرنا أنه تقلّص من 10 الاف متر إلى 2200 متر، وهذا يساوي حجم مكتبة كبيرة كما يقول احد المشاركين في المعرض. ويسهل للمرء أن يزور معظم دور النشر في وقت قصيرة، بعض الدور المعروفة لم تشارك، وبعضها تبدّل موقعه، وفي وقت كان سعر متر العرض نحو 90 الى 100 دولار قبل الأزمة الاقتصادية، أصبح الآن بحدود 32 دولاراً، وهذا الرقم قد يعتبره البعض قليلاً، لكن ليس في ظل الأزمة، إذ تراجعت مبيعات الكتب بشكل كبير، وارتفعت أسعار الورق الحبر والمطابع، وعلى هذا أصبح النشر مهمّة صعبة وأحياناً غير مجدية... يقول الناشر والكاتب سليمان بختي أنه كان يطبع 1000 نسخة من كل كتاب، بسبب الأزمات تقلّصت عدد النسخ إلى 500، ثمّ إلى 400.
وفي هذه الدورة، وبسبب الأزمة التي أحدثتها الصورة الكبيرة لقائد فيلق القدس قاسم سليماني في معرض آذار الماضي، لجأت الادارة إلى الطلب من المشاركين عدم اقحام سياسات قد تتسبب بمشكلات واستفزازت، وعمدت إلى عدم السماح بإقامة ندوة سياسية عن الانتخابات النيابية والثنائي الشيعي، هذا الأمر جعل صاحب فكرة الندوة، الناشط في المجتمع المدني، يسأل عن حرية الرأي والتعبير.
في جولة عابرة على المعرض، يلاحظ الزائر عدم مشاركة بعض الدور المعروفة لاسباب غالبها اقتصادي. غابت يقطينة دار رياض الريس وحضرتْ صوره بعد رحيله... دار "النهار" التي عاشت مرحلة احتضار في السنوات الأخيرة، عادت وأصدرت أكثر من كتاب هذا العام، وبات يديرها المحافظ السابق زياد شبيب... دار "نلسن" أصدرت "القصائد الممنوعة" لعمر الزعني، والكثير من الكتب التي تهتم بالنثر اللبناني وشعر شوقي أبي شقرا وبعض الشخصيات الثقافية والفنية من سيد درويش إلى الفنانة صباح وزكي ناصيف... دار الفرات تستمر في بيع صور ملصقات الأفلام. دار هاشيت انطون استحوذت على بعض الروائيين الجدد(سعيد خطيبي، زينب مرعي، أحمد محسن..) إلى جانب بعض الاسماء المكرّسة (عباس بيضون، حسن داوود، خالد خليفة)... دار الآداب إضافة إلى عدد مجلة الآداب التكريمي لسماح ادريس في ذكرى رحيله، أصدرت "رجل يشبهني"، الجزء الثالث من "أولاد الغيتو"، للياس خوري، و"افرح يا قلبي" لعلوية صبح. الشاعر شوقي بزيع بدل إصدار الشعر لجأ إلى كتاب عن زواج المبدعين... دار النهضة العربية تحتفي بأكثر من عشرين شاعراً جديداً تحت مسمى "أصوات". المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات أصدر مجموعة من الأبحاث حول 17 تشرين والاقتصادي اللبناني وحرب 2006 والقضية الفلسطينية، فضلا عن سلسلة "ترجمان" التي تنتقي أمهات الكتب الفكرية والفلسفية... دار "الرافدين" العراقية حظيتْ بالديوان الأخير للشاعر الراحل محمد علي شمس الدين... دار "شرق الكتاب" تعود إلى "كتابات" الراحل فارس ساسين، وتعقد ندوة يشارك فيها شبلي الملاط ومارلين كنعان ورشا الأمير، (اللافت أن ساسين كان يشكل مع ملحم شاوول وجبور الدويهي ما يشبه المجموعة الثقافية، والثلاثة رحلوا في وقت متقارب). جريدة "السفير" المحتجبة لها جناحها، وكذلك جريدة "الأخبار"... المكتبات الفرنسية والانكليزية، لها زاويتها الخاصة والمميزة بلونها...
الكافيتريا في المعرض لم تعد ملتقى الزائرين، فهي عبارة عن زاوية مخصّصة لبيع المشروبات وبعض السندويشات، ولا فسحة لها، ولا طاولات.
على هامش المعرض، قد يكون من الجيد التذكير بما دوّنه الكاتب جون غانثر في العام 1968، اذ اشتكى من الهوس بناطحات السحاب، لقد كانت بيروت ترتكب خيانة بحق نفسها وبحق الجمال الفريد المحيط بها(ثلاث مدن شرقية- فيليب مانسيل)، لا أدري لو عاد غانثر الآن، وتأمل بيروت وأبراجها، من هناك، من حيث يقام معرض الكتاب، لا أعرف ما الذي يمكن أن يقوله، ربما سيصاب بالصدمة، اذ تُركت المدينة لفرق الهدم والتوحش العقاري...