"أن تكون جزءاً من لائحة التراث الثقافي غير المادي لليونيسكو، فهذا يعني نَيل الاعتراف بتراث البلد، وأهميته في الحفاظ على التنوع الثقافي في مواجهة العولمة المتزايدة. ودعم التراث الثقافي غير المادي، يعني الحوار بين الثقافات، وتعزيز الاحترام المتبادل لأساليب الحياة الأخرى، وأهميته لا تكمن في المظهر الثقافي نفسه، بل في ثروة المعرفة والمهارات التي تنتقل عبره من جيل إلى آخر".
جميل تعريف منظمة اليونيسكو أعلاه بعمل لجنتها الخاصة على تحديث لائحتها، ولعله حقيقي إلى حد بعيد. حكايات شاعرية تضمّخ كل تفصيل في كل ملف ترشحه دولة في العالم. تراكمات الخبرات والذوات الإنسانية، بل وحلاوة وجودها في حد ذاته، إضافة إلى إنقاذ فنون كثيرة من الضياع والاندثار، ومعها ثقافتها الأصيلة وحرفيّوها. بمعنى ما، هو عمل لتعريف العالم على العالم. لكن هذا ليس كل شيء. ثمة طبقة من السياسة والاقتصاد، الانثروبولوجيا وثقافة الهوية، تتحرك تحت تلك التعريفات واحتفالات الدول المختلفة بتضمين ترشيحاتها الوطنية في لائحة اليونيسكو هذه. طبقة، ربما تكون أكثر إثارة للاهتمام من الحدث نفسه، تأخذه إلى مساحات أكثر تعقيداً، وربما أحياناً تناقضه، خصوصاً في ما يتعلق بالمُدرَجات العربية.يحضر، مثلاً، الملف المصري بمهرجانات، صيف كل عام، تحيي ذكرى رحلة العائلة المقدسة من بيت لحم إلى مصر هرباً من اضطهاد الملك هيرودس، وتشمل أنشطتها الغناء والألعاب والولائم التقليدية وإعادة تمثيل الرحلة في عروض دينية وفنية. ورغم حُسن النوايا وجمالية الخطوة، معطوفة على الالتزام بموضة حجز مكان دائم للمهمشين (دينياً أو عرقياً أو جندرياً) في التظاهرات الأممية والدولية لإراحة ضمير عالمي ما وحيازة ختم الصواب السياسي، فإن تسليط الضوء على تقاليد أقلية معينة، يُغامر أيضاً باختزال هذه الأقلية في "فولكلورها" الذي يصبح واحة للفرجة على عَرض مهدد بالانقراض، أكثر منه تشابكها مع النسيج الأكثري حولها وتفاعله معها. ويخاطر أيضاً بتكريس نظرة "الأنّاس" لفئة ما، أي مسيحيي مصر في الحالة هذه. وعلى ما يقال عن أن كل كشف أو إضاءة يقابلهما حجب وتعتيم، فالحجب في هذه الحالة يكون لمواطنة المسيحيين المنقوصة في مصر، سواء في المجتمع أو في العلاقة مع الدولة والقانون.وهناك أيضاً النظرة السياحية التي لا مفر منها، لا سيما في دول الطفرات التي يتسم تاريخها بقفزات كبرى وسريعة، من النظم الصحراوية، إلى الحداثة وما بعدها على مستوى العمران والصناعة، البنى التحتية والخدمات والبزنس، وربما السياسة والعسكر. ويبرز السؤال عما إذا كان "حفظ" عادات وحِرَف، من نوع نسيج "التلي" اليدوي الإماراتي، أو المعرفة والتقاليد المرتبطة بزراعة النخيل في السعودية والبحرين وعُمان وغيرها، أو المعارف والممارسات المرتبطة بزراعة البن الخولاني في السعودية، هو إعطاء حياة جديدة لتلك المهارات... أم أنه حبس لها في قمقم السياحة التراثية التي تحاول تلك الدول استنهاضها، استكمالاً لسياحة التسوق والأعمال والترفيه، ومؤخراً الطب والتعليم.وهناك موسيقى الراي، التي دخلت السلك الدبلوماسي التراثي، وكباشاً سياسياً هو بمثابة السر الذائع. فبعدما أدرجتها اليونيسكو في لائحتها، كتراث ثقافي غير مادي جزائري، احتفت وزارة الثقافة الجزائرية بالخبر كتأكيد على "أصالتها الجزائرية بلا منازع"، مضيفة أن "طلب تصنيف أغنية الراي هو من أجل الحفاظ عليها من الضياع، ورَدٌّ على بعض الدول (لم تسمّها) التي تحاول نسب هذا اللون الغنائي إليها". وكانت المملكة المغربية قد تقدّمت بملفّ الراي في العام 2016، قبل أن تتقّدم الجزائر بملفّ مماثل. وفي العام 2020، أعلنت وزارة الثقافة الجزائرية، سحب ملفّها لضعفه تقنياً، لتعيد تقديمه مدعّماً في 2021.هكذا، يمسي الاحتفال بالإدراج الجزائري في اللائحة الأممية، انتصاراً على الجار المنافس أكثر منه حواراً وتكاملاً، مثلاً، في استكشاف الاحتمالات التاريخية والاجتماعية لتمدد هذا الفن بين البلدين. وأكثر من ذلك، وبالعودة إلى نقطة "مواجهة العولمة"، فإن العالم العربي، بل العالم بأسره، كان قد تعرّف على فن الراي قبل سنوات، عبر "الشبان" خالد ومامي ورشيد طه، انطلاقاً من فرنسا، ومحمولاً على مؤسسات رأسمالية وليبرالية، ومستفيداً من روابطها بالعولمة، ليقول بالضبط إن هذا "الشاب" أو ذاك، والذين يميزون أنفسهم بهذا اللقب عن الجيل القديم المؤسِّس لهذا الفن، أصوات خصوصية ثقافية في مجتمع كوزموبوليتي متعدد. صحيح أن أطروحات مطولة قد تُكتب عن ماكينات الإنتاج، وتسليع "الآخر" من ضمن هيمنة ثقافية أكبر منه.. وعن الاحتفاء به وبـ"رأيه" كمتمرد أو مُعارض أو مُغاير، في الفن، بموازاة جدل متشعب حول قصور اندماجه الفعلي في البيئة المتعددة، وحول الشكل الذي تقبله به هذه الأخيرة. لكن الحقيقة تبقى أن العولمة ليست دائماً، ولا جوهرياً، خصم الخصوصية الثقافية ولا عدوة تظهيرها.في المقابل، هناك رغيف "الباغيت" الفرنسي، والذي ما زال تراثاً وحِرفَة حيّة بالفعل، بمعنى وجوده الأساسي والطبيعي في الحياة اليومية (بهذا المعنى يشابه إدراج المنسَف الأردني، والهريسة التونسية). فبعد إدراجه في لائحة اليونيسكو، وبدلاً من اقتصار ردود الأفعال المحلية على الاحتفاء، استنهض "الباغيت" نقاشاً داخلياً ممتعاً تصدّرته صحيفة "لوموند". فلم تجد الصحيفة أي غضاضة في استصراح خبير وباحث أميركي عن الموضوع، لينتقد هذا "الأجنبي" الشغوف أثر العولمة في ذلك التراث الغذائي الفرنسي، والذي يشتمل أيضاً على حكايات وتاريخ وتشريعات وحركة نقابية مستمرة إلى اليوم، مع نبش ثقافي في تغير الذوق الوطني. فالخصوصيات ليست أحفوريات في صخور.وبحسب "لوموند"، وقع ستيفن كابلان، المؤرخ المولود في بروكلين العام 1943، في حب منتجات المخابز الفرنسية عندما تذوق رغيف "باتارد" في حدائق لوكسمبورغ بباريس العام 1962، ومنذ ذلك الحين، تغيرت حياته. فبعد عقود من البحث، ودبلوم في حِرفة الخَبز، أصبح خبيراً مكرساً، وصاحب كتاب "من أجل الخبز" (Pour Le Pain-2020). ويعترض كابلان، خلال مقابلته مع "لوموند"، على إدراج "الباغيت" هكذا حاف، من دون كلمة "تقليدي". فالباغيت عموماً بات يعني، في فرنسا، رغيفاً صناعياً من الدقيق الأبيض، فيما الـBaguette Tradition هو الذي تم تعريفه بمرسوم صادر العام 1993، حدّد مكوناته، ما منع الخبازين من استخدام مواد مصنّعة لنفخ الطعم والقوام. المرسوم أنقذ "الباغيت تراديسيون" وأعاده إلى الذوق الرفيع. هنا سياسة حية، مثل هذا التراث غير المادي نفسه."أتابع تطور هذه القضية منذ سنوات، بقيادة الاتحاد الوطني للمخابز الفرنسية ومحلات المعجنات ونقابات الحرفيين"، يقول كابلان، "هذه النقابات التي بدأت تفقد قوتها أرادت منذ البداية الترويج للرغيف الفرنسي التقليدي، والذي ليس مجرد شيء قديم". يعترض كابلان لأن اليونيسكو، بإدراج جنريك "الباغيت الفرنسي" من دون تحديد "التقليدي"، تضفي "شرعية على خبز الباغيت الأبيض للاستهلاك اليومي، ذي الجودة المتواضعة... من بين ستة مليارات رغيف باغيت تُستهلك في فرنسا كل عام، هناك فجوة بين الرغيف التقليدي، الذهبي والهش، غالبًا نتيجة عملية التخمير الطويلة، وبين الباغيت الأبيض الأكثر استهلاكاً، لكنه باهت ومفتقر إلى الجاذبية والذوق.. إنه تراجُع مروّع". هنا نقاش ثقافي للأكل، راهن وتراثي في آن، ومُستكمَل من الماضي وصولاً للحاضر.خرج الباغيت إلى الحياة الفرنسية، مطلع القرن العشرين. أرادت الطبقات الأكثر ثراءً في المدن الكبرى خبزاً طازجاً ومقرمشاً، مرات عديدة في اليوم. فبدلاً من شراء رغيف كبير، يزن ما بين كيلوغرام واثنَين، تحولوا إلى خبز يزن رغيفه حوالى 300 غراماً، حتى بات اليوم أقل من 250 غراماً. لفترة طويلة، كان الخبز يُصنع برافعة تخميرية، ما عنى عملاً شاقاً، ليل نهار، للخبازين الذين قارنهم ماركس بـ"عمّال المناجم البيض". ثم استُبدلت الرافعة تدريجياً بالخميرة، فارتفع العجين بشكل أسرع واستغرق الخبز وقتاً أقل بسبب شكل الرغيف الفرنسي الممتد. "كان هذا تحريراً للخبازين!"، بحسب "لوموند"، لكن "المشكلة هي أن الخبازين فقدوا مهاراتهم تدريجياً. أثناء تدريبهم، لم يعودوا يتعلمون كيفية استخدام الرافعة التخميرية الأصلية". هنا اقتصاد، وحركة عمالية تتصارع مع مهنتها نفسها، وتُصارع بها من أجل كسب وحياة أفضل.كلمة أخيرة عن العولمة: مكرم العكروت، خبّاز من أصول تونسية. نجح العام الماضي بتفوق في مسابقة "أفضل باغيت باريسي"، وتأهل بالتالي للفوز بجائزة رفد قصر الإليزيه بالخبز. ثم تسربت منشورات كان قد شاركها في حساباته الاجتماعية، تشتمل على عبارات كراهية وإقصاء ومعاداة لقيم الجمهورية الفرنسية التي نال مواطنيتها، إضافة إلى نَفَس إسلامي متشدد ونظرية مؤامرة. هكذا بالطبع، وكما تقتضي البداهة، خسر فرصته. لا أبيض في العولمة، ولا أسوَد. يبقى الخبز الذهبي المقرمش.