من يُحصي خسائرنا التي لا تتوقف؟
2022-12-02 17:25:55
في منتصف الثمانينات، حين كانت فصول الأزمة المالية والاقتصادية تتوالى، أذكر أنني في حيّنا البيروتي الشعبي (البسطة الفوقا) سمعت صراخاً وعويلاً ممزوجاً بالبكاء. خرجت وشقيقي وكنت حينها تحت العاشرة بقليل، ورأينا رجلاً يقف على حافة شباك وكأنه يهم بالقفز وزوجته تصرخ خلفه فيما الجيران يناشدونه التراجع. لم يقفز، بل عاد أدراجه وانتهت حالة الهلع في المبنى والحي بعد دقائق معدودة. الرجل حينها خسر مدخراته وتعويض عمل لعقود، ولكن ما زلت أذكر عيون الجيران والناس وكانت مصدومة. هناك عشرات الألوف من هذه النماذج، من نجا من الحرب والخطف والجروح، وابتلعه الانهيار المالي أو الاقتصادي ودفعه لتمني الموت، عسى تنتهي مسيرة الآلام.
مسلسل الانهيار لم يتوقف مع الحرب الأهلية، بل تلتها خبيات من قبيل المنازل المحتلة، أو مشروع "سوليدير" وابتلاعه ممتلكات الكثير من أهالي بيروت.
لكن السنوات الماضية منذ بدء التداعي الاقتصادي عام 2017-2018 باتجاه الانهيار المالي والسياسي نهاية 2019، لها حساب آخر، أكان لجهة تبخر الودائع أو انهيار الاقتصاد والفرص المتوافرة فيه، أو لناحية الآلام اللاحقة كإنفجار بيروت والتفكك الاقتصادي المتواصل. من يُحصي خسائرنا في هذه السنوات؟
والخسائر هنا تتعدى حسبة الودائع. ذاك اننا في مكان من المفترض أن يُوفر فرصاً تعليمية وترفيهية واقتصادية لنا ولأبنائنا وبناتنا. معلوم أن ذلك غير متوافر، لا بل معكوس، لجهة الشعور الدائم باستحالة الفرص لأي شيء في هذا البلد وفي ظل هذا الواقع السياسي المستدام. فوق هذه الكومة، يفقد المكان نفسه، رغم انعدام الفرص والاقتصاد ونهب المال، مقومات الحياة. الأمن لم يعد متوافراً، بل بدأت تتسرب أشكال الأمن الذاتي المقلقة الى أحياء في العاصمة وخارجها. وهذا لن يبقى مجانياً. كلفة الكهرباء باتت أضعاف ما يدفعه الناس في الغرب حتى، هذا إن تأمنت بشكل مقبول. الاستشفاء تلقى الضربة تلو الأخرى وباتت أكلافه مماثله للكهرباء نظراً لغياب الرقابة وتدني الأجور في القطاع لمن تبقى من عاملين فيه.
المياه لا يُؤتمن لها مع انتشار الكوليرا، والتعليم تراجع مستواه نتيجة ظروف المعلمات والمعلمين وهجرة مجموعة واسعة منهم بعد الانهيار والانفجار.
الوقت والأعصاب المستنفدة هنا خسائر أيضاً، وعلينا احتسابها ضمن السلة الكاملة. لكن الخسائر لا تنتهي هنا بالتأكيد، ذلك أن جيلاً مثل جيلي الذي أمضى سنوات طفولته في الملاجئ والفرار، أيام حروب حركة "أمل" و"حزب الله" والقوات اللبنانية والكتائب وغيرهم، يُواجه اليوم مستقبلاً يديره إما المشاركون في الحروب أو ورثتهم بموازين مختلفة طبعاً. بيد أن "حزب الله" انتفخ قوة ونفوذاً بشكل غير متكافئ مع بقية اللاعبين. ورؤية هؤلاء في الحكم، بموازينهم المختلفة، هي خسارة نفسية مضاعفة. هي كالمشي على الأعضاء المتورمة في الجسم بعد تعرضه للضرب المبرح.
هناك من وصف مرة الموت وكأنه عملية خطف للقوات الخاصة تنتزع منك شخصاً بشكل مفاجئ. خسائرنا هكذا، لكنها هذه المرة حساب جار، بلا عامل المفاجأة. فرق الكومندوس (وليس واحدة) تُواصل النهب، فيما نقف نحن مكتوفي الأيدي، متفرجين على جريمة متواصلة ولا يبدو أنها شارفت على الانتهاء.
وكالات