ليس تفصيلا بسيطا، في بلد ينتهك يومياً الحقوق البديهية لجميع مواطنيه، أن يستطيع شبان وشابات من ذوي الإرادة الصلبة ان يعيشوا التجربة الجامعية ويتخرجوا من إحدى أعرق الجامعات في لبنان ، الجامعة الاميركية في بيروت. فقد شرّعت الجامعة أبوابها لاستقبال هؤلاء الشباب من ضمن برنامج حمل إسم "Next step" أو "مسيرتنا إلى الأمام"-كما يحبون ترجمتها- يقوم على تدريب مقتبس من برنامج أمريكي لمساعدة الشباب من ذوي الإرادة الصلبة على زيادة استقلاليتهم. وعلى امتداد ثلاث سنوات يكتسب الطلاب المفاهيم المتعلقة يحياتهم اليومية تساعدهم على الإنخراط في المجتمع وسوق العمل.
اكتساب الثقة بالنفسفي صف يضم إثنا عشر تلميذا كحد أقصى، يلتقي شبان يعانون من إحتياجات مختلفة، مثل متلازمة داون أو عسر القراءة أو مشاكل في التأخر الذهني، أو من التوحد، يوسعون آفاق خبراتهم وتجاربهم ومعلوماتهم ويعززون ثقتهم بأنفسهم، على غرار لمى (24 سنة) التي تعاني من متلازمة داون. تتحدث لمى لـ"المدن" قائلة: "شعرت أنني صرت أقوى، ولي مكانة إجتماعية. تعلمت أن أكون مستقلة، ما زاد ثقتي بنفسي. أدركت أنني فعالة في المجتمع وقادرة على العمل والقيام بأموري من دون مساعدة أحد".
تشير مديرة قسم "Next Step" منى آغا مكتبي الى أنه "من خلال هذا التدريب تمنح الجامعة الأميركية هؤلاء الشباب الفرصة ليعيشوا تجربة الجامعة، والتخرج من مركز التعليم المستمر. ومن ناحية أخرى، توفر لهم فرصة التعلم والتدريب في المسارات الوظيفية".
دورات متكيّفة مع الحاجاتبحسب مكتبي "يهدف البرنامج إلى تلبية الاحتياجات الفردية والاختيارات المهنية لكل طالب، من خلال تزويدهم بالأدوات والاستراتيجيات الملائمة لحالتهم، مشيرة في حديث لـ "المدن" الى أن "هذا يعني تكييف الدورات مع احتياجات كل شخص وبالطريقة التي تناسبه لإكتساب المعلومات."
وتشرح "على سبيل المثال بعض الطلاب يستوعبون المفاهيم بسهولة أكبر عندما تكون قائمة على أساس بصري، لذلك نستخدم الرسوم البيانية والصور، والبعض الآخر لا يفهمون اللغة الإنجليزية جيدًا، فيقوم عدد من الطلاب المتطوعين في الجامعة الأميركية بمساعدتهم وإيصال الشروحات والتفسيرات باللغة التي يفهمونها. يشكّل ذلك أولى الخطوات التي تساهم في خلق فرص لدمجهم في المجتمع في جو ايجابيّ وصحيّ".أقسام البرنامج وشروط القبولتفترض شروط الإنتساب إلى البرنامج أن يكون الشاب /ة بعمر 18 عامًا، وحصلوا على الأقل على فصول دراسية حتى الصف السابع في مدرسة متخصصة، وأن يكونوا قادرين على القراءة والكتابة. تضيف مكتبي: "في بداية العام الدراسي، يتعين عليهم اجتياز اختبار يقيّم مهاراتهم ويحدد قدراتهم من حيث القراءة والكتابة. ثم يقومون باختبار عقلي وجسدي في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، ثم ينضمون إلى أول فصل مشترك، مع ُمدرّسة متخصصة يساعدها أربعة طلاب من الجامعة. وتهدف السنة الأولى، التي تركز فقط على النظري، إلى تعريف هؤلاء الطلاب على المفاهيم الأساسية في الحياة اليومية، والتربية المدنية، واحترام البيئة، وقواعد الجماعة وحياة المجتمع. كما سيتم تعريفهم على كل ما يتعلق بمجال الفن والرياضة والموسيقى والرقص، وسوف يصبحون على دراية بأدوات الإنترنت، وسيتعلمون كيفية إدارة ميزانيتهم وأموالهم."
تتابع"خلال السنة الثانية، سيحصل هؤلاء الشباب على تدريب داخلي في شركات في لبنان ليومين في الأسبوع. مما سيتيح لهم مواجهة عالم العمل الحقيقي. خلال فترة التدريب ، يراقب الفريق التعليمي والأساتذة، بالتعاون مع مسؤول التدريب في الشركة، سير هذه المرحلة بسلاسة، مما يضمن أن المتدربين الشباب يستفيدون بشكل جيد من جميع المهارات التي اكتسبوها من السنة الأولى وأنهم احترموا قوانين العمل التي تعلموها. في الأيام الأخرى من الأسبوع ، سيتبع الطلاب الصفوف النظرية، يلتقون في سياقها بمتحدثين من العالم المهني: أطباء من الجامعة، وشباب لديهم بالفعل سنوات من الخبرة في المجال المهني".
وتلفت مكتبي الإنتباه إلى أنه "قبل بضع سنوات، لم يكن المجتمع اللبناني مستعدًا بعد لقبول الأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة داخل شركاتهم. كان من الضروري بذل جهد كبير بطرق مختلفة والنضال من أجل ترسيخ بعض المفاهيم الجديدة وكسر اخرى. اليوم تغيرت الأمور إلى حد مقبول وإن كانت تحتاج إلى مزيد من العمل؛ صارت الشركات تتفاعل أسرع وتوافق على التعاون معنا، ما سمح لبعض الشباب أن يعملوا في الفنادق، والمكتبات والمطاعم وفي كافيتريا الجامعة الأميركية".جهل، تنمّر و...املتكثر الاسباب التي تساهم في معاناة ذوي الاحتياجات الخاصة في لبنان، من جهل بعض العائلات في كيفية التعامل معهم، الى تنمّر المجتمع، وصولا إلى حرمانهم من أبسط حقوق التعلم والتنقل والعمل، إلى القوانين التي تبقى حبرا على ورق ولا يطبّق منها إلا القليل.
تأتي هذه المبادرة من الجامعة الأميركية في بيروت، والتي بدأت منذ العام 2016، لتعطي أملا لاصحاب الاحتياجات الخاصة من اللبنانيين الذين تخلت دولتهم عنهم، رغم اقرار قوانين تحمي حقوقهم، منها القانون رقم 220/2000 عن حقوق الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة، وهي اذا ما حصلوا عليها ستضمن لهم حياة كريمة، أبرزها، الحق بالحصول على الخدمات الصحية وإعادة التأهيل، الحق بالسكن، بالحق بالتعليم، الحق بالتنقل، والحق بالعمل. كل هذه الحقوق بقيت شعارات رنّانة بعيدة عن الواقع.
بعض من ذوي الاحتياجات الخاصة يستسلم لواقعه الصعب، في حين من تسعفه الظروف والعائلة المتفهمة والداعمة ينخرط في الحياة والتعلم ومراكمة المهارات الخبرات. لكن الإرادة وحدها لا تكفي إذا لم تؤمّن الدولة أبسط الحقوق لهؤلاء، وتساعدهم على تأمين فرص التعليم والعمل.
فليس بديهياً ان يتأمن لكثيرين ما استطاع عبد الذي يعاني من تأخر ذهني أن يحصل عليه من فرصة الدخول إلى الجامعة الأميركية. وهو يتحدث بحماسة عن اليوم الذي سيتخرج فيه من الجامعة. فإبن الـ 19 ربيعاً تبدلت حياته، بحسب ما يقول لـ "المدن"، مشيراً الى أن الجامعة أعطته أملاً بمستقبل أفضل، لا بد من ان يأتي".