2024- 11 - 23   |   بحث في الموقع  
logo آخر بيان لـحزب الله.. ماذا أعلن؟ logo غارة البسطة.. حصيلة جديدة للشهداء وبيانٌ من “الصحة” logo حصيلة مُحدثة للغارة الإسرائيلية على منطقة البسطا logo اسرائيل أمام تحدٍ كبير... صواريخ حزب الله تقلب موازين المعركة! logo هجوم جوي بالمسيرات على جيش العدو في الخيام logo بالفيديو.. العدو الإسرائيليّ يُدمر مسجداً في جنوب لبنان! logo تفاصيلُ اختفاء الحاخام اليهودي في الإمارات logo منذ بدء العدوان حتى يوم أمس... اليكم حصيلة الشهداء
لماذا يكتبون المذكرات؟!!
2022-12-01 15:55:59

يخبرنا الروائي الإيطالي أنطونيو تابوكي في "تريستانو يحتضر" أن الحياة تصبح أكثر حسية عندما تُكتب بحبر أسود فوق بياض الورق، ليعود في مقطع آخر من الرواية ويطلق التحذير التالي: إن من يكتب مذكراته يراها أهم من الأحداث التي يكتب عنها، وينخدع بهذا الوهم.نعم، إن المذكرات قد لا تكون مجرد فلش لأحداث ولّت وانقضت، فهي في بعض مآربها قد تكون استجابة حسية لندرة الحاضر وفقره أو قد تكون وسيلة هشة أو مبدعة لاقتفاء الأثر، لكنها بكل الأحوال ليس لها إلا أن تكون في بعض متونها تلطياً ومكوثاً في الكتمان والصمت بقدر ما هي في متون أخرى تصريح عن ذات كاتبها.ثمة خيال غالباً ما يتاخم الذاكرة فيأسرها على غفلة منها ليصير نص الذاكرة في هذا السياق محل انجدال بين الواقع والتاريخ والتخييل، إذ هناك على الدوم خيال متلطّ خلف الرغبات المكبوتة والنوستالجيات المشوهة أو الكاذبة والتردد الذي قد خلّع في الكثير من المراحل مفاصل ما فاتنا من أيام وسنين.يبدأ جبرا إبراهيم جبرا مذكراته والتي أسماها "البئر الأولى" بالعبارة التالية: "أردت في البدء أن أكتب سيرة ذاتية كاملة". هل الإنسان مؤهل بحق لأن يكتب سيرة ذاتية كاملة؟!!إن الكمال في هذا المحل يقع بالتأكيد في باب المحال ذلك أن أقصى ما نصبو إليه لدى الإنكباب على تدوين مذكراتنا هو أن نرمم الذاكرة، أن نسدّ بعض الثقوب في جدرانها العالية، أن نتجنّب الوقوع في براثن شهواتنا حيالها. إزاء هذا الأمر تدعونا جوليا كريستيفا إلى عدم الإستخفاف بالعنف الذي يلازم الرغبة باستجلاء الهوية الذاتية أو بإعادة أوصال تاريخها... فالذاكرة في بعض مكائدها هي أقرب إلى عين تحدّق في مقبرة حيث بالموت فقط تستوي الأيام.بالواقع، وكواحد شغوف بقراءة السير الذاتية لست على ثقة أن السيرة الذاتية هي ذاتية بإطلاق، فذات الذكريات لا تتحقق إلا عبر ذوات الآخرين وقد تحقق الأمر في ذهني بشدة عقب تجربتي الشخصية في كتابة المذكرات، وأنا أتكلم عن "مذكرات شرطي لبناني" (عمل غير منشور) وعفواً لهذا الإستطراد نحو الذات على الرغم من ضرورة أن تتمتع المادة التي أنا بصددها بالموضوعية.
(بول بولز)ذكرياتنا ليست ملكاً حصرياً لنا فهي أيضاً ملك الآخرين، لا ذات إلا عبر الآخر إذا أردنا أن نسترق السمع إلى ما يقوله ايمانويل ليفيناس وأقصى ما يتمناه المرء لدى التطلّع إلى ماضيه لا يتجاوز أن يكون إلقاء القبض على فتات المشهد الذي قد بددته السنين. في مذكراته "عالم الأمس" يقول الكاتب النمسوي ستيفان تسفايغ: "الزمن يقدّم الصور وأنا أنطق الكلمات المرفقة لها، ليس غير". فكتابة المذكرات هي أشبه بمحاولة إلقاء القبض على المشهد في لحظة زواله... "أول شيء أتذكره أنني كنت تحت شيء ما، كانت طاولة، فقد رأيت ساق الطاولة، رأيت سيقان الناس ورأيت جزءاً متدلياً من مفرش الطاولة"، بهذه العبارة يستهل الكاتب الأميركي تشارلز بوكوفسكي مذكرات طفولته ومراهقته في كتاب "الشطيرة"... ماذا قبل ذلك المكوث تحت الطاولة؟!! لا شيء يقول بوكوفسكي، فاسترقاق النظر على الماضي فضلاً عن كونه كشف وبسط لما قد راح فهو أيضاً فعل توار وغياب... فكتابة الذكريات هي في بعض مفاصلها انبساط وفي مفاصل أخرى هي محاولة للبقاء في طي الخفاء والكتمان وبكل الأحوال هي مباغتة الماضي لأيامنا الحاضرة... إنه إلحاح الذاكرة، ذلك الإلحاح الذي يدفع لاستئناف بدء آخر أو الأخذ بالثأر من بدئنا الأولي عبر بثّ هذا البدء بنص يقوم على "قلق العبارة" على ما جاء في تراث العرب، إذ إن كلمات الذاكرة وثغثغتها في هكذا مطارح غالباً ما تشي باضطراب العلاقة بين الآن والبارحة، بين اليوم والأمس وبين الأنا وغيرها.إن محاولة امتلاك مشهد الماضي يذرّر الذات بل يعمل على تمزيقها... يستهلّ الكاتب الألماني هرمان هسّه مذكراته بالقول إن طفولته قامت على صحبة وارفة مع "بان" إله البراري في الأسطورة الإغريقية. هل "بان" طفولة هسّه هو عينه "بان" هسّه الطاعن في السن؟ يترك هسّه الجواب معلقاً في دياجير ذهنه والمسكوت عنه في سرد هسّه أن الإنسان إزاء ماضيه هو جملة من الكائنات. فعمل الذاكرة ضمن هذا التصور يخالف كلياً تصور الفيلسوف الفرنسي باسكال عن الكيفية التي يراقب الإنسان عبرها ذاته... "لا يمكن أن نعتلي الشرفة ونرى أنفسنا مارين في الشارع في الوقت ذاته" يقول باسكال بيد أن الروائي البرازيلي ماشادو يخالف هذا القول بعمق إذ أن إبرة المخيلة، حسب الروائي البرازيلي، ترتق خيوط الذاكرة وتودي بشخصها لأن يراقب نفسه من فوق الشرفة أو بين الزحام.قد يكون نص الذاكرة موغلاً في الإنتماء وقد يكون بمثابة نفض للماضي من فوق أكتاف الحاضر وأحياناً أخرى يكون بين هذا وذاك وهو ما نشهده بروعة في مذكرات الكاتب المصري أحمد أمين والتي عنونها بـ"حياتي". فكتابة المذكرات في هذا الأفق هي أشبه بإعادة النظر بجوهر الأنا بل نراها محاولة متردّدة حيال الصياغات الثقافية والماورائية التي تشكّل أنا هذا المفكر المصري، بل والتي تشكّل جسده على حد سواء وهو الطالب في جامعة الأزهر ثم المعلّم، ومن المفارقات أن هذا التردد المعبّر عن نفسه بالتواري تارة والبوح الصريح تارة أخرى هو ما يضفي على كتاب "حياتي" الروعة.
(بوكوفسكي)يعلّمنا نص الذاكرة بالإجمال أنه ليس للذاكرة طابع طوبوغرافي منتظم تاريخياً مثل طبقات الأرض، فنص الذاكرة قد يكون توليفة متناثرة من شطط التداخل بين التواريخ والأيام وقد يكون محض محاولة لترتيب جوارير الذهن المخلّعة. فالمذكرات قد تُختصر تحت عبارة واحدة كما هي الحال مع الروائي الأميركي بول أوستر في "مذكرات الشباب" حيث الحياة في هذا المتن هي اجتراح الإنسان لحظوظه الخاصة، ومذكرات أخرى قد يشكّل العنوان عتبة الولوج إلى ديارها... عنْوَن بابلو نيرودا مذكراته بـ"أعترف بأنني قد عشتُ" أما غابرييل غارسيا ماركيز فقد صارح قرّاءه منذ البدء بالعنوان التالي: "عشت لأروي"، بينما الألماني غونتر غراس فأبى إلا أن يكون متحايلاً عبر العنوان التالي لمذكراته، "تقشير البصلة"، وكأني بصاحب "الطبل الصفيح" عبر إدراج نفسه كبصلة يقوم هو نفسه بتقشيرها يعترف بعد مديد العمر أنه ما زال يجهل نفسه، في حين أن اليوناني نيكوس كازانتزاكي في "تقرير إلى غريكو" والأميركي بول بولز في "بدون توقف" يشي كل من عنواني مذكراتهما أنهما أرادا للقارىء أن يلج عالم حياتهما عبر كوة معتمة بسبب ما يعتور هذين العنوانين من غموض والتباس وهو ما ينطبق على الروسي يفغيني يفتوشينكو في "العمق الرمادي – سيرة ذاتية مبكرة".(دون كيشوت)غالباً ما تحيلني المذكرات إلى قبر بلا جثة أو إلى قبر يفور بالجثث لكنها بكل الأحوال تستدعي بذهني ضروب التوتر بين الحاضر والمستقبل وما قد مضى. فالذات لا تمتلك حقيقة لكنها بالتأكيد تمتلك تاريخاً وثمة الكثير من الكتابات التي لا تُدرج عادة في خانة محض المذكرات الذاتية، هي بالعمق تستبطن ذكريات العالم الماضي وتاريخه ليس تاريخ كاتبها فحسب إنما تاريخ عصر برمته... ففي العام 1696 وضع أحد رؤساء الأديرة الفرنسية كتاباً بعنوان "تأملات في السخف وفي وسائل تجنبه" لنكون، كما يرى مؤرخو تلك الحقبة من تاريخ فرنسا، إزاء نص يعكس الحالة الذهنية والمشادات اللاهوتية التي احتلت عالم الكنيسة في تلك الفترة.أما دوستويفسكي الذي قال في "دون كيشوت" سرفانتس أن كاتبها أنقذ الحقيقة بواسطة الكذب فقد قارب رائعة سرفانتس كمذكرات عصر برمته بينما دوستويفسكي بالذات فثمة من قال عنه أنه "شكسبير المصحات العقلية" وذلك عطفاً على ما اعتور عصر هذا الروائي الروسي من هزّات في وجدان المجتمع الروسي ولا سيما مجتمع المدينة الروسية، وهو ما ينطبق أيضاً على "الجندي الطيب شفيك..." للتشيكي هاشيك ياروسلاف والتي قد عدّها كونديرا مذكرات الحرب العالمية الأولى أذا أردنا أن نستنطق ما لم يقله بشكل مباشر ميلان كونديرا. فالنص الروائي قد يكون بدوره بمثابة المذكرات التي قد تم ابتكارها، فإذا كان النسيان يراكم أحداث الماضي فإن الرواية تنزع هذه الأحداث من منطق سباتها وصمتها وركودها... فالرواية لسان الماضي تارة وعين الحاضر تارة أخرى.لا بداية لوقائع الذاكرة، فالبداية في نصوص الذاكرة هي واقعة مرتبكة... إن البدء في هذه النصوص المضطربة هو حالة سريرية. والذكريات في هذا المحل قد تكون حالة انبعاث، حالة غموض، حالة وفاء أو حالة غدر والتخييل عندها هو سيّد الموقف بل إنه بمثابة الحبوب التي في طاحونة الذهن وليس من باب العبث أن ثمة من عدّ كتابة الذكريات أقرب إلى الأيديولوجيا حيث هناك سعي غامض لردم تلك الهوة التي تفصل الماضي المجهول للإنسان عن ماضيه المتخيّل بغية الفوز بحاضر آخر وصولاً إلى مستقبل زاهر!! بيد أن كاتب الذكريات لا يسمع ماضيه بل تراه يسترقّ السمع، لا يحدق في ذلك الماضي بل هو يختلس النظر، نقلاً عن الناقد الأدبي نورثروب فراي بتصرّف.عندما سُئلتْ الكاتبة الكندية مارغريت آتوود صاحبة رواية the handmaid’s tale والتي تحولت في ما بعد إلى مسلسل رائع، عندما سُئلتْ، أين ترقد القصة؟ أجابت بلا تردد: إنها ترقد في الظلام.... ومن قال أن حياة كل منا لا تنتهي إلا أن تكون قصة!!خاتمةعلى الرغم من كل ما سبق من قيل وقال، حيال كتابة المذكرات، تراني أقرب إلى ملاحظة القط في رواية الياباني ناتسومي سوسيكي "أنا قط".عندما لاحظ ذلك القط انكباب صديقه البشري على الكتابة كل الوقت قام بسؤاله، ماذا تدوّن فوق هذا الورق؟... أدوّن مذكراتي، قال البشري فردّ عليه القط بالقول، وماذا في حياتك كبشري شيء هام كي تقوم بتدوينه؟!!


وكالات



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2024
top