مثل جلسات الفتيات الاعتيادية، كنا دومًا، أنا وأنتِ "وآخر"، نجعلهُ موضوعًا لثرثرتنا، لأملنا وحلمنا، لحيرتنا، أو لسخطنا وشتائمنا. ولم يكن الآخر سوى مرور خاطف كالبرق، يُذهلكِ ويُخيفكِ ويسحركِ ربما، ويثير ترقبك الحذر للرعد والمطر الآتي، وأنتِ لم تمتلكي مظلةً بعد أو أن جدران القلب ليست بهذه القوة لتُعامل العواصف بارتياح الأثرياء.. فسرعان ما انتهت الأمور، لتخبركِ بإيجاز بليغ إنه لا مناص من الوحدة.ربما اشتهيتِ أن يكتمل لكِ أمل واحد، وهذا ما كنا نحوله في جلساتنا الليلية وأحاديثنا الهاتفية الطويلة إلى سخرية مُرَّة، حين تأتين إليّ ترفلين بالأمل وهالته تطوقكِ، فتزفّينه كأنه قلادة في عنقكِ أو إسوارة في معصمك. كانت لأحلامنا الصغيرة طقوس استقبال، مثل المواليد الجدد.. ولم يمنعكِ –المآل الاعتيادي الذي نعرفه كلانا- من إعادة المشهد، كحلم طفولي بهيج. تدعين الله وتشملينني بدعائكِ العاطفي الرقيق – بقلب شغوف رَضَّي- "ألا نتعلق بشيءٍ ليس لنا"، ولعل هذا ما تحقق فعلًا، فلم نجد حتى الوقت للتعلق، لسرعة انقضاء الأشياء؛ ولعلّي أحيانًا أردت بعمق أن أتعلق!كنا نعزي أنفسنا عادة بالقول المريح المُشتهى، أن تلك الأشياء التي حلمنا بها لم تكن لنا أصلًا، وإلا لمَ خرجت الأمورُ عن إرادتنا فيها؟لكننا لم ندخر فكرًا في العثور على أسباب أخرى من الممكن أن تحمل السرّ، ونجد متعتنا في البحث عن الأسرار كجامِعي اللؤلؤ من شاطئ الخليج، لؤلؤ الكشف عن المستور والغامض فينا.قلت لكِ يومًا في لحظة صدق عميق، من تلك التي نحسها مع نسيم الفجر وسكون الغروب، أنني أظن أن المغزى يكمن في أني لم أمتلك ذلك الاندفاع أو الثقة والأمل في الآخر الذي يجعلني أُكافح من أجله بإصرار مراهق. لطالما كان لدي ذلك التشكك وعدم التأكد الذي يوقفك متحيرًا في الحواف. وهو ما رافق شخصاً يضع حقيبته على كتفه مستعدًا للرحيل، لا مَن يحمل أمتعته كمن يهم بالمكوث في أقرب نقطة.ولم يكن هذا ما أريده ربما، لكن شيئًا فيَّ كان يتوقعه، ويقف جانبًا ويقول لي ولكِ: أرأيتِشيء فيَّ كان ينتظره، كما ينتظر الصبيان إجازة الصيف. الآن تبدو كل الأمور طبيعية، ومياهي تجري في مجاريها. الأمر يُشبه ذلك الإحساس المتناقض الذي يثير الذعر فيك، حين تفقدين شيئًا عزيزًا عليك، فتحسين بخليط من الارتياح والحزن، الحزن لأنك فقدت شيئًا غاليًا، لأن توقعاتك تحققت، لأنك تعودين إلى وحدتك من جديد، ولأن أملًا ناعمًا رقيقًا مات فيك، ولأن فراشات كانت تظن قلبك موطنها غادرته، وأزهارًا ذبلت قبل موسم القطاف. والارتياح، كأنك تحررت من أمرٍ يُقلقك، وربما لأن توقعاتك ذاتها تحققت فتشعرين بنبؤة الأنبياء. وكذا الآن، بوسعك أن تعودي إلى عزلتك حيث اعتدتِ أن تقضي نهارك، وذلك لم يكن سوى طارئ غريب سرعان ما انقضى، وشيء من النزق الحالم الذي يغريك في لحظة جنون بأن تتركي وظيفتك وتُنهي علاقاتك وتبدأي من جديد وتحلمي من جديد، لحظة تفتح أفقًا للأمل في حياة غير التي ترتسم أمام ناظريك ويُخيفك تحققها.مرةً ونحن نسير على الشاطئ سويةً، متأبطتين ذراعي بعضنا البعض في جو الشتاء الذي يقطر شاعرية، والغيوم فوقنا رُسمت بيد فنان ماهر، والموج عنيف والسماء رمادية، وصوت ماجدة الرومي يتردد في الأفق مع تموج أجنحة النوارس "ما حدا بعبّي بقلبي مطرحك"، ظهر من بعيد شاب يسير وحده كظل غامض بمحاذاة الشاطئ. قلتِ لي يومها إن في الوحدة افتتانٌ جمالي! كفتنةِ نرسيس بصورته في الماء، "ولو كان حرًا لما صار أسطورةً".يبدو الواحد منا رقيقًا شاعريًا حزينًا فيما يسير وحده على الشاطئ، يحمل كتابه في يده. وكذا فيما يجلس في المقهى الذي اعتاده وحيدًا مع قهوته وهاتفه وكتابه. نستأنس بالرفاق الغرباء في مقهانا، تلك الوجوه التي ألفَتنا وألِفناها. نبدو جذابين وفاتنين بغموضنا ووحدتنا، مثل صورة حزينة تُثير الاهتمام.ويخيفنا أن نواجه الحياة بثقلها، والزمن بسطوته، وحدنا، كزوارق مكسورة في بحرٍ هائج. وتأخذنا الحماسة لنقول إننا البحر وإننا الزورق.- تكثرين من استخدام البحر.منذ أن كنت طفلة نائمة وأيقظتني أمي في السيارة على طريق ساحل غزة الطويل لتقول: ها هو البحر؛ فاستيقظت من نومي على زرقته الشاسعة المهيبة، صار مادة خيالي الأولى.. ولوقت طويل جدًا، لم يكن لدي أفق غيره، ويبدو لي أفقه الأزرق البعيد زاهيًا حلوًا كما كنت أراه وأنا طفلة صغيرة تحملها والدتها على ذراعها وتنظر لكل شيء حولها نظرة طازجة معبأة بالدهشة."سأصيرُ يومًا ما أريد"، سيصبح خيالي أرحب، مثل عالمٍ شاسع من الكائنات الجنيَّة التي تقف على ندهة الساحر! وإلى ذلك الوقت أقول: إلهي اجعلني كالبحرِ في تجدده، وكالنّهرِ في سَيرهِ المطمئن.