تبتلعك رائحة العفن والرطوبة والجلد البشري المتفسخ، تلتصق بمساماتك اعتباطيًا. وتباغتك رثاثة الأمكنة وزحف الهلهلة على الإسمنت والإنسان على حدٍّ سواء. أما الخوف من التورط، الخوف من " الدولة"، الخوف من الآخر، هو المزاج العام، المتربص بالعابرين المنهكين والمترقبين لشيءٍ ما خفيٍّ لا يعرفون كنهه. تَلِجُ مخيم برج البراجنة مأخوذّا بأحكامك المسبقة وخوفك من العابرين الذين يستحيلون بغتةً ندّك الأشرس والجاني العتيد عليك. تشعر فجأةً برهاب الاحتشاد، تمتلئ رئتيك بالهواء الفاسد، وتغرق أذنيك بضوضاء لانهائية. وإذا اشتدّ الرهاب، تولي الأدبار راكضًا من هذه الهوة العمرانية المشوهة، هائمًا لهواء نقيّ، لا تدنسه رائحة البؤس العمومي والصرف الصحي والفقر المُدقع.
في أحد بيوت المخيم، وفي عمارة عشوائية تتهالك أم أحمد على كنبتها الوحيدة والمهترئة بقنوط واستيحاء، يعلو صوتها الخافت ويهبط وهي تتوسل السماء تحقيق العدالة لابنها الموقوف منذ سنتين في سجن رومية المركزي. بلكنة فلسطينية تروي الأم والأرملة مرتين على التوالي قصة ابنها المظلوم، على حدّ قولها. وتحكي عن معاناتها لاستحصال العدالة اليتيمة في هذا البلد المنكوب، وعن السخرية التّي تكمن في صلبها، تشير إلى التعذيب الذي يتعرض له وعن انهياره الجسدي وسوء الغذاء وعن همومها الحياتية الكبرى، محدجةً أحفادها الصغار بعطفٍ وشفقة.سنتين للتحقيق"بشيل من صحني لطعميه وزوره، كل ما يصلني من مساعدات مالية من مؤسسات الأيتام ودور الرعاية الاجتماعية والأونروا، أجمعه لأشتري لابني الموقوف المواد الغذائية ومواد التنظيف وأحيانًا الأدوية، ونقلياتي من المخيم إلى رومية". تروي الأم قصة ابنها الثلاثيني أحمد، اللبناني والعامل في الدهان والتبليط، والمُعيل لأطفاله الأربعة، والذي أوقف منذ حوالى السنتين قيد التحقيق في قضية سرقة سيارة، ونقلها من مرفأ بيروت إلى البقاع. وبالرغم من عدم وجود أدلة تدينه، وبالرغم من تأكيد محاميه لـ"المدن" أنه بريء من سرقة السيارة ونقلها، حسب ما أفضت إليه التحقيقات، لا يزال أحمد موقوفًا ينتظر إخلاء سبيله من القضاة والموظفين المعتكفين.
"معي سجله العدلي المكتوب عليه وبالخط العريض: لا حكم عليه". تقول الأم مستغربة التأخير في عدالة ابنها، وإخلاء سبيله، وهي التّي تعاني من حمى البحر المتوسط والأمراض الجلدية والرئوية المتنوعة، ومؤخرًا من الاضطرابات النفسية، بسبب تدهور صحة ابنها الوحيد وهمّ أولاده الأربعة التي تعيلهم منذ توقيف ابنها، من المساعدات الاجتماعية. وتصف أم أحمد وضع ابنها بالمأساوي إذ أن القوى الأمنية تجري مداهمات دورية للزنازين وتقوم بتعذيب المساجين بصورة وحشية تحت حجة حيازتهم لمواد مخدرة.
"قمت بزيارة ابني منذ أسبوع، وبعد أخذ ورد مع القوى الأمنية التّي لم تسمح لي بإدخال بعض الحاجيات الأساسية له، كالملابس الصوفية للشتاء، والمواد الغذائية، رأيت ابني بصورة لم أكن أتوقعها، نصف وجهه مشوه تقريبًا، وتعلوه الكدمات الزرقاء وظهره وعظامه بغالبيتها فيها كسور ومعوجة. سألته عن سبب حالته هذه، فأجابني باقتضاب أن "مكافحة الشغب دخلت لتتسلى فينا"، وأنهم قاموا بتجريدهم من ملابسهم وإغراق رؤوسهم بالمياه الباردة وضربهم. وقال لي إنه يأكل خفيةً، لأن غالبية المساجين يتضورون من الجوع، ويضطرون أحيانًا لسرقة أكل الآخرين بسبب فساد الطعام الذي تقدمه الدولة، وقلّة المؤن التّي بإمكان الأهالي إدخالها. و"طلب مني تزويده ببعض الأدوية الجلدية بسبب التقرحات والالتهابات التّي يعاني منها"، تضيف الأم.جشع المحامين وشلل الأجهزة القضائيةالاعتكاف القضائي وصعوبة استخراج المستندات اللازمة من الجهات الرسمية المضربة في غالبية الأحيان والشلل المقيت، جعلا من أحمد رهينة للبيروقراطية والتأجيل المستمر، بالرغم من الحكم عليه بالبراءة. أحمد الذي ورطته مجموعة إجرامية بجرم لا علاقة له به، وهو سرقة سيارة ونقلها إلى البقاع، هو حسب رواية الأم: "يعمل بالدهان بصورة موسمية وحالته المادية صعبة جدًا، وعندما عرض عليه أحد جيرانه نقلها من المرفأ إلى البقاع مقابل 100 دولار أميركي منذ سنيتن من دون اطلاعه على حقيقة كونها مسروقة، وعندما استقل السيارة ووجد علامات غريبة فيها، ورأى المقود مكسورًا، سرعان ما ترجل منها وهرب خشية تورطه بالسرقة. وعندما تم ضبط السيارة وجدت بصمات أصابعه عليها. وبالرغم من توقيف الجناة، يستمر سجنه اعتباطيًا".
وبالرغم من المناشدات التّي أطلقتها الوالدة وبناتها للجمعيات المعنية بالمساجين وحقوقهم، وكافة محاولاتهن لتوكيل محام لتسيير أمور ابنها، لم يتمكّن لليوم من متابعة قضيته قانونيًا واستخراج قرار إخلاء السبيل، بسبب أتعاب المحامين المرتفعة التّي تصلّ حدّ الألف دولار أميركي مسبقًا، والرسوم المتفرقة التي تتراوح بين 200 و600 دولار أميركي. وحسب ما أشارت الوالدة لـ"المدن"، فإنها قامت منذ سنة بتوكيل محام من آل زعيتر، الذي اشترط عليها تقاضي الأتعاب مسبقًا، وبعد تقاضيه الأتعاب التّي بلغت حوالى 500 دولار أميركي قام بحظرها عن وسائل التواصل ورفض التكلم معها، من دون القيام بواجباته.الأزمة الاجتماعية تفضي لأزمة أمنيةتؤكد أم أحمد أن ابنها خريج جامعي ومتعلم، لكن ظروف المخيم الصعبة والبطالة التّي عاشها مدّة خمس سنوات أجبرته للعمل بالدهان، من دون إيجاد وظيفة ملائمة باختصاصه تضمن له العيش الكريم. أما تعاطي الجهات الأمنية والقضائية مع سكان المخيمات فدائمًا ما يكون عدائياً واستنسابياً، بالرغم من كون أحمد لبناني وحائز على هوية لبنانية، لكنه يلاقي اليوم أفظع أنواع العقاب والتعذيب على جريمة لم يقترفها، كما نص الحكم عليه. وظروف سجن رومية الداخلية وصراعات مجموعات المساجين والتسيب والأمراض، دفعت بأحمد للنوم في الردهة بين الزنازين، للابتعاد عن التورط بالمشاكل التي قد يتعرض لتعذيب القوى الأمنية بسببها لاحقًا.
تنهي أم أحمد حديثها مع "المدن" قائلةً: "لم نتورط أنا وأولادي قط بصراعات أو مجموعات أو أحزاب، أعلتهم من مهنة التنظيف. عملت بها ثلاثين سنة بدوامين، وعلمتهم لكي ينجحوا في إيجاد مهنة تؤمن لهم العيش الكريم والرفاهية التّي لم أتكمن تأمينها لهم، بينما هناك في الخارج يقبع مئات المتورطين والمجرمين بغطاء من أحزابهم وغطاء من السّلطة الفاسدة، يسرحون ويمرحون، بينما ابني يقبع خلف قضبان زنزانته المتسخة والموحشة".
"العدالة المتأخرة هي لاعدالة". تعيش أم أحمد بانتظار تحقيق العدالة لابنها في دولة إن توافرت فيها العدالة فهي دائمًا ما تكون مؤجلة. أم أحمد واحدة من حوالى 13 ألف والدة نزيل في السجون اللبنانية، همها الشاغل وأملها الوحيد هو إخلاء سبيل ابنها وفض الاعتكاف القضائي الذي حال دون ذلك. تأمل بتحسن الظروف وبخروج ابنها سالمًا ورعاية أولاده الذين نسي ملامحهم.