"وجد العالم متوحشاً وما من امرئٍ يجرؤ على القيام بعملٍ خيّر، وكم حوله من أشخاص يتصرّفون كأنّهم مضطرّون إلى العيش للأبد".. يلخص الشّعور السّابق نقطة انعطاف مفصليّة يعيشها "شارل بينيستو" الشخصيّة الأساسيّة في رواية "الهاجس"، للفرنسيّ إيمانويل بوف (1898 – 1945)، الصادرة عن دار الأهليّة (عمّان-2021) ترجمة: بهاء إيعالي.يلعب الزّمن دور البوصلة في تحديد انحرافات حياة "شارل"، ثم تقلبات الزمن حوله، وأظن أن توثيق التواريخ قصده التذكير بأجواء فرنسا المحمومة آنذاك. تبدأ الرواية في توصيف دقيق لرجل انتقل حديثاً إلى حيّ لا يعرف فيه أحداً، محاولاً الهروب من الذاكرة- الحرب، والواقع المرير- الأهل. وينبّهنا الكاتب في صور مقتضبة إلى الحال الرّاهنة التي وصل إليها هذا الرجل في مدينة "فانف"، كان يغادر بناءً -سوف نعرف لاحقاً أنّه نهايته، بناء بقي غريباً عنه- وله تصرفات تثير فضول البشر من حوله. ينظر إلى لعب الأطفال "ففي ملامحه تعبير رقيق لأب سلب الموت ابنه" وعلى ما يبدو هو سجين منطقة من حياته تواجه الماضي والحاضر في آن واحد."شارل" تعب من حصار العائلة ونظرة الاختلاف المُشكّكة التي تأتيه دائماً من إخوته، باتوا يعتبرون قطيعته مع الماضي ومع زوجته وأولاده فجأة، ما هي إلا تصرف رجل مسّه الجنون ويجب حرمانه من الميراث. كان على الدوام "عرضة لنوبات عدائيّة تجاه البشر" وما شعور المرء إن كان الألم تأتيه من أقرب الناس إليه: "بعد العشاء زارني في منزلي أخواي وأختي، وأنتِ تعلمين أنّه في كلّ مرة أراهم فيها فإنني أمرض تلقائياً" (ص23) و"مضى خمسة عشر شهراً منذ أن تركت عائلتي وأصدقائي مدفوعاً بالاشمئزاز والازدراء" (ص24)، هكذا كان يسرّ لصديقته، وسيطلب منها أيضاً هي أن تقطع علاقته به "إذ لا يمكن نسيان أوقات السعادة التي منحتني إياها، لكن ما من سبب يدعوني إلى مواصلة رؤيتك"!"شارل" المحامي، هجر قصر العدل، وجلس في شقة في حيّ مليء بالغرباء، فيه من الشّخصيات المركّبة ما يترك أسئلة عن تلك الغاية في الوصل إلى ما ينشده: "يسعى إلى هدف عظيم مفاده إعطاء ذكرياته معنى أكثر بساطة"، وهل يكون ذلك -مثلاً- بتقديم المال لرجل يفتعل قصة انفصاله عن زوجته ويطلب مشورته كمحام، لكنه في النهاية يطلب المال كأتعاب مؤجلة لمحام آخر، لأن "شارل" لا يريد أن يعود للماضي، ثمّ تأتي الكارثة على شكل شروع بالقتل؛ ذاك الرجل كان زوج عاهرة يعيش في نفس المبنى الذي يقطنه "شارل"، وبعد أن شرب الكحول بكلّ النقود التي استدانها منه، عاد ليدمي زوجته. في ما بعد سوف يتورط "شارل" باستضافة ابنتهما القاصر وسيدخل في دوامة اتهامات أخلاقيّة ومساءلة من كلّ الأشخاص الذين يعيشون حوله، رغم عدم معرفتهم به، إلا أنّه كان مكشوفاً لدرجة أنّ الجميع كان يستهدف طيبته ورغبته في البدء من جديد "تخيّل أنّه بقطيعته مع الماضي لن يكون لأيّ من أفعاله عواقب، وأنّه سيكون حرّاً ولن تتم محاسبته مرة أخرى" (ص61).
ندخل في ماض "شارل" بين حين وآخر بالتوازي مع الأحداث اليومية، ونطلع على طبيعة علاقته مع عائلته، والتواصل مع زوجته التي لم يكن يفهمها حتى تاريخ انفصاله عنها وترك المنزل. تتشكل أمامنا تلك المفارقات التاريخيّة التي يعاني منها "شارل" بداية تغيير الأحوال عبر الأشهر والأيام وصولاً إلى تشريح الثقل الروحيّ الذي تركته تجربته في الحرب وتحوّل الأهل إلى وحوش، لأنّه غيّر سلوكه مع العالم.تقدّم الرواية مقترحاً عن انتزاع العادات والعلاقات الاجتماعيّة من موضعها ورميها جانباً ثمّ محاولة البدء من جديد في مكان آخر، ولعلّ لعنة الاعتياد التي برزت في أيام "شارل" الأخيرة تجعل اليقين واضحاً من أن الصورة ذاتها في كل مكان، فالانتقال إلى مدينة "فانف" لا معنى له.إننا نراه عائداً إلى مكتبه في تلك الشقة الغريبة التي استأجرها، يحاول الكتابة سعياً منه للتغيير، ومتسائلاً على لسان الراوي: "حين جاء ليعيش في فانف تهيّأ له أنّه لن يشعر بالملل دقيقة واحدة، وأنّه سيهتم بكلّ شيءٍ وسيستجوب جيرانه، وسيكون نملة داخل مستعمرة نمل وسيتعاطف مع الجميع" (ص104).لقد كان "شارل" مهووساً بالابتعاد عن كلّ ما أتعبه من الماضي، وهو على استعداد للدخول في صراعات جديدة مع أيّ شيءٍ غير ماضيه ومن يمثله من الأشخاص والوقائع، لكنّه ولشدّة حساسيته استحوذ عليه التعب باكراً، وكان هاجس الموت يجلس معه في كلّ التفاصيل الجديدة ويشير له معللاً بلاجدوى التغيير، وهل كانت الكتابة هي الحلّ؟ صوّره المؤلف وهو يقرأ ويكتب حتى امتزج صوت المؤلف بشخصية "شارل" وراحت تتفكك الشخصيات من خلال سلوكها ومواقفها وقراءة طباعها، أصبحت الكتابة جزءاً من الأحداث والاستنتاجات الأليمة حول النهاية "لا يوجد شيء أكثر خداعاً من حسن النية فهي توهم المرء بأنه قد صالح نفسه" (ص91).الرواية ترسم صوراً من الصراع الطبقيّ في فرنسا، تكشفها الحوارات والعلاقات بين "شارل" وجيرانه من جهة، وبينه وبين أصدقائه وأهله من جهة أخرى. نتلمّس تلك النظرة الاستباقيّة عن الآخر سواء بسبب منطقته أو شكله أو جذوره العائليّة، وهذا ما كان سائداً على ما يبدو خلال النصف الأول من القرن العشرين في فترة ما بين الحربين ضمن أحياء باريس.هو عمل أدبيّ يضعنا أمام عالمين متناقضين بالشكل والاهتمامات، لكن مظاهر العنصريّة هي ذاتها في كلّ مكان، يجمعهما وجود شخص قرر العبور إلى الأسفل إلى الطبقات المسحوقة التي ما كانت تكفّ عن استباحة عوالمه، يحاول البحث عن السّلام ويطارده هاجس الموت وحيداً، حاول أن يكون حراً من أعباء طبقته البرجوازيّة بالتوجه إلى حيّ فقير، فتمّ استقباله بالحبّ على مقياس المصالح والمنفعة، بينما الموت وقّع على المشاهد الأخيرة ثم جمعهم في تشييع جثّة البراءة المتمثلة ها هنا بشخصية "شارل".