رغم تجاوز عدد سكان العالم عتبة الثمانية مليارات نسمة، وتوقع الأمم المتحدة بأن يصل هذا العدد إلى حوالى 10.4 مليار بحلول عام 2100. تعيش بعض الدول الكبرى في حالة قلقٍ ديموغرافي، مع البيانات التي تظهر منذ سنواتٍ طوال تباطؤ وتيرة النمو السكاني المستمر لديها. وإذا ما استمر معدل نموها السكاني بالانخفاض، كما يتوقع خبراء الأمم المتحدة، فهذا سيعني بالضرورة تجاوز نقطة الانخفاض السكاني والشيخوخة والوصول إلى الاضمحلال.تباطؤ النمو السكانيبينما يُعدّ الحديث عن الاكتظاظ السكاني ومستقبل الكوكب الشغل الشاغل لعلماء البيئة وغيرهم من المتابعين، فإن النظرية القائلة بأن عدد سكان الأرض سيبلغ 10.4 مليار ليست بحقيقة محتّمة. فالنمو السكاني، الذي لا يزال في ازدياد، يشهد تباطؤاً وصل حدود أقل من 1 في المئة سنوياً، وهو أبطأ معدل منذ عام 1950. وهذا ما يشير إلى حقيقةٍ واضحة، تفيد بأن الناس أصبحوا ينجبون عدداً أقل من الأطفال مقارنةً بالآباء والأجداد.
يعيش ثلثا البشرية حالياً في منطقة تقل فيها معدلات الخصوبة (أي عدد الولادات المتوقعة لكل امرأة على مدار حياتها الإنجابية) عن 2.1 طفل لكل امرأة، وهو المستوى التقريبي الذي يتطلبه التجدد السكاني من خلال الولادات. يشمل ذلك الولايات المتحدة، حيث كانت الخصوبة العام الماضي أقل من مستوى عام 1971، ونما عدد سكانها بأبطأ معدل منذ تأسيسها. كما يشمل هذا التباطؤ الصين، الأمة التي فرضت سياسة الطفل الواحد القسرية بدافع الخوف من الزيادة السكانية، والتي دخلت اليوم في صراعٍ يائس للالتفاف حول معدلات الخصوبة المتدنية. وحتى لو وصل عدد سكان العالم إلى 10.4 مليار بحلول عام 2100 أو قبل ذلك، تتوقع الأمم المتحدة أن يبدأ هذا المعدل بعد ذلك في الانخفاض. وإذا ما انخفضت الخصوبة العالمية أكثر من المتوقع، فقد يبدأ هذا الانخفاض في وقتٍ أقرب ويبدو أكثر حدة.القنبلة السكانيةمن شأن ما نتحدث عنه هنا أن يضع بعض الدول على مسارٍ لم تسير فيه من قبل، لتدخل مرحلة الشيخوخة وتُستنزف من الابتكارات وطاقة الشباب. إذ أن استمرار التباطؤ السكاني في معظم الدول الغنية ستكون نتيجته الشيخوخة والانحدار في نهاية المطاف، وأبرز مثالٍ فيها اليابان، مع الأرقام الصادمة التي تشير إلى وفاة آخر شخصٍ فيها بحلول عام 2500، بسبب تناقص عدد المواليد الجدد بشكلٍ حاد. وسيقابل ذلك نمو سكاني مزدهر في إفريقيا جنوب الصحراء وأجزاء من جنوب آسيا، سيجعل من نيجيريا، على سبيل المثال لا الحصر، في طريقها لتجاوز الولايات المتحدة بأكثر من 400 مليون شخص بحلول عام 2055.
هذا كله يشير إلى أن نظرية انفجار القنبلة السكانية ليست قائمة على أُسسٍ صلبة، وكل من دافع عنها باستماتة لم يلحظ أنه مع ازدياد قدرة الناس الشرائية، وتزايد احتمال أن يعيش أطفالهم حتى سن الرشد، استجابوا بشكلٍ شبه عالمي من خلال إنجاب عدد أقل من الأطفال، سواء كانت باكستان، حيث انخفضت معدلات المواليد تقريباً فيها إلى النصف لتصل لمعدل 3.4 طفل لكل امرأة، في مسارٍ انحداري استمر من عام 1968 إلى 2020، أو الولايات المتحدة، التي انخفضت معدلات الخصوبة فيها من 2.5 إلى 1.6.سياسة الطفل الواحد والعواقبالمعطيات الخطيرة التي نتكلم عنها، لم تكن خافية عن الحزب الشيوعي الحاكم في الصين، الذي أعلن في عام 2015، أنه أنهى سياسته التاريخية والقسرية الخاصة بالطفل الواحد، ما يسمح لجميع المتزوجين بإنجاب ما يصل إلى طفلين. فبعد أن ساعدت سياسة الطفل الواحد في أن تكون مصدر جميع الفوائد الديموغرافية، حيث نما عدد السكان في سن العمل في الصين من 594 مليون في عام 1980 إلى ما يزيد قليلاً عن مليار في عام 2015. وانخفضت بالتالي نسبة الإعالة في الصين، أي إجمالي السكان الشباب وكبار السن بالنسبة إلى السكان في سن العمل، من أكثر من 68 في المئة في عام 1980 إلى أقل من 38 في المئة في عام 2015، ما أعطى الاقتصاد الصيني قوة دفع هائلة.. بدأت البيانات الديموغرافية تقلب الأمور رأساً على عقب، بإشارتها لبلوغ مئات الملايين من الصينيين سن التقاعد، وانخفاض عدد الشباب الذين سيحلون محلهم.
لكن الشعب الصيني لم يستجب لدعوات الحزب الحاكم. وبحلول عام 2020، انخفض معدل الخصوبة الإجمالي في الصين إلى 1.3 وحسب. فما كان من الحكومة الصينية إلاّ أن حاولت مجدداً في عام 2021، بتحويل سياسة الطفلين إلى سياسة "الثلاثة أطفال". وفي العام نفسه، انخفض معدل الخصوبة مرة أخرى إلى 1.15، ما جعلها من بين أقل دول العالم خصوبة. وبينما تتوقع الأمم المتحدة أن عدد سكان الصين قد بلغ ذروته، يعتقد علماء ديموغرافيون آخرون، بعدم موثوقية الإحصاءات الحكومية في الصين، وبأن عدد سكانها بدأ يتقلص منذ سنوات.
يحدث ذلك في وقتٍ تسجل فيه الهند أكبر نمو سكاني في العالم، ما يعني أنها ستتجاوز الصين من ناحية عدد السكان. وكما هي الحال مع الصين التي انحرفت تركيبتها السكانية بسياسة الطفل الواحد، شهدت عشرات البلدان التي لديها برامج قسرية مماثلة انخفاضاتٍ كبيرة في الخصوبة، وتراجعاً سكانياً. وأحدث الأرقام هي كالآتي: اليابان: 1.3 مولود لكل امرأة، وتقلص عدد السكان بنسبة 0.5 في المئة. إيطاليا: 1.2، وتقلص عدد السكان بنسبة 0.6 في المئة. البرتغال: 1.4 وصفر نمو. روسيا: 1.5 وتقلص عدد السكان بنسبة 0.4 في المئة".انخفاض عدد الأطفال في الولايات المتحدةوينطبق ما يجري في الصين على الوضع الديموغرافي للولايات المتحدة، فرغم أن هذه الأخيرة لم تعتمد سياسات تحدد الإنجاب، يمكن أن يلاحظ المرء الآثار الديموغرافية الخطيرة في انخفاض عدد الأطفال. ففي عام 2022، كان هناك حوالى 24.8 مليون شخص دون سن السادسة. وهو العدد نفسه تقريباً لعام 1962، أثناء ذروة طفرة المواليد، ولكن في ذلك العام، شكّل الأطفال دون سن السادسة أكثر من 13 في المئة من إجمالي السكان، مقارنةً بما يزيد قليلاً عن 7 في المئة اليوم.
في الوقت نفسه، تتقدم الأمة في السن، حيث أن العديد من أولئك الذين كانوا أطفالاً في عام 1962 يدخلون ما نسميه "سن التقاعد". وعدد الأميركيين الذين تبلغ أعمارهم 65 عاماً أو أكثر، بلغ ضعف من تقل أعمارهم عن 6 سنوات، ويشكلون 16 في المئة من السكان. ومن المتوقع أن يصل العدد الإجمالي للمسنين إلى 80 مليوناً بحلول عام 2040 وما يقرب من 95 مليوناً بحلول عام 2060. وهذا يعني المزيد من الأشخاص الذين تجاوزوا سن العمل التقليدية، وعدد أقل من العمال الأصغر سناً.
وتبدو هذه الأرقام أكثر وضوحاً في أوروبا وشرق آسيا، حيث تنخفض الخصوبة وتتكشف شيخوخة السكان بشكلٍ أسرع. ومن هنا جاءت جهود دول كالمجر وروسيا وكوريا الجنوبية وفرنسا واليابان والصين، لتقديم مزايا، بما في ذلك النقود، بهدف حثّ مواطنيها على الإنجاب أكثر وتجنب المشكلة الديموغرافية التي ستنعكس بصورة كارثية لا محالة على مستقبل البلاد.استقدام المهاجرينإلى ذلك، تتوقع الأمم المتحدة أن إفريقيا جنوب الصحراء، التي انخفض معدل الخصوبة الإجمالي فيها بأكثر من طفلين لكل امرأة من ذروته في حقبة السبعينيات، يمكن أن تضاعف عدد سكانها تقريباً من 1.2 مليار في عام 2022 إلى ما يقرب من 2.1 مليار بحلول منتصف القرن. وننوه هنا بأنه من المتوقع أن تأتي أكثر من نصف الزيادة في عدد سكان العالم بحلول عام 2050 من ثمانية بلدان، وهي: تنزانيا والفلبين وباكستان وجمهورية الكونغو الديمقراطية وإثيوبيا ومصر والهند ونيجيريا.
ستظل آسيا أكثر قارات الكوكب اكتظاظاً بالسكان، ومن المرجح أن تكون أميركا الشمالية وأوروبا موطناً لأغنى مواطنيها (والأكبر سناً بشكلٍ متزايد)، وإذا لم تستطع البلدان المسنة من إقناع مواطنيها بتوسيع أسرهم بشكلٍ كبير، فقد تكون الهجرة من الأجزاء الشابة المتبقية من العالم هي أفضل طريقة لدرء التدهور الاقتصادي والديموغرافي، مع منح الملايين من المهاجرين المحتملين فرصة عادلة لحياةٍ أفضل.
وسيتطلب تصحيح المسار الديموغرافي هجرةً دولية على مستوى لم يشهدها العالم من قبل، يُستبعد أن تقبل بها البلدان المسنة في شرق آسيا كالصين واليابان وكوريا الجنوبية، التي لا تشجع الهجرة إلى أراضيها. في حين أن أوروبا أصبحت منقسمة بشدة وعدائية بشكلٍ متزايد بشأن مسألة الهجرة. أما الولايات المتحدة، التي يشكل سكانها المولودون في الخارج ما يقرب من 14 في المئة، فلديها فرصة أن تكون مختلفة، وبذلك، تمارس سيطرة أكبر على مصيرها الديموغرافي أكثر من أي دولة أخرى في العالم. وحسب التقديرات، يقول 42 مليون شخص في أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي إنهم سيهاجرون إلى الولايات المتحدة إذا استطاعوا. وهذا ما قد يعالج مشكلتها جذرياً.