بعد أسبوع حافل في مقاطعة كتالونيا في اسبانيا، قمت خلاله بإدارة دورة تدريبية في متحف MIT قرب برشلونا، ها أنا أمضي أسبوعاً آخر في منطقة مختلفة تماماً شمال اسبانيا، أشارك في المهرجان الدولي لفنّ الدمى Titirijai في دورته الأربعين، وهي زيارتي الثانية لهذه المنطقة الجميلة بعد مشاركتي عام 2016 في المؤتمر العام للاتحاد الدولي لفن الدمى UNIMA.
برزت في العقود الأخيرة في أوروبا عدد من "المدن صديقة لفن الدمى"، وهي مدن صغيرة تنشط فيها مبادرات من أشخاص مغامرين فترصد بلدياتها موازنات كبيرة لدعم فن الدمى ولتحويل المدينة الى مقصد للفنانين ومحبي هذا الفنّ من العالم، وبالتالي تفعيل الحركة الثقافية والاجتماعية والدورة الاقتصادية للمدينة.
أشهر هذه المدن شارلوفيل في فرنسا، مع بروز مدن أخرى مثل "تولوسا" في اسبانيا من خلال مهرجانها الدولي لمسرح الدمى (منذ عام ١٩٨٢)، والمركز الدولي لفن الدمى Topic الذي افتتح عام ٢٠٠٩، وهو يقدّم حالياً برمجة سنوية تحتضن ١٦٠ عرضاً مسرحياً من كل العالم مع دورات تدريبية ولقاءات ثقافية بالإضافة الى المتحف الدولي لفن الدمى والمهرجان الذي لم يتوقف.
تقع هذه المدينة على بعد ٢٠ كلم عن "سان سيباستيان" الساحلية، وتبعد مسافة ٧٠ كلم عن مدينة بيلباو، المقصد السياحي الرئيسي لبلاد "الباسك" التي حصلت على استقلال اقتصادي وثقافي وضريبيّ عن المملكة الاسبانية بعد سنوات طويلة من الصراع الدموي. منطقة باردة، لكنّ طقسها يضمن مناظر خضراء فريدة، وقربها من البحر يجعل مطبخها غنياً بأصناف الأسماك الشهية مع تنوّع كبير في المازات tapas. من الملفت أن ضيوف مركز Topic تتم استضافتهم لتناول الطعام في نوادٍ مجهّزةٍ بمطابخ، يستخدمها أعضاء النادي لإقامة السهرات ومباريات تحضير الطعام الشهيّ التي تساهم في تمتين العلاقات بين السكان. لكن من الملفت أن هذه النوادي كانت في السابق تقتصر على الرجال، وقد تم تغيير هذه القاعدة مؤخراً لتشمل النساء ايضاً. سكان هذه المقاطعة يحرصون على حفظ لغتهم، وهي لغة من أصل قديم غير معروف، لا علاقة لها بأية لغة مستخدمة حالياً في أوروبا.
يتضمن المهرجان هذا العام عروضاً يومية للأطفال ومسائية للأعمال المخصصة للكبار، بالإضافة الى ندوات تخصصية (وقد شاركت فيها) ومعرض لأعمال فنان الدمى الاسباني المعروف جوردي برتران، ويختتم بتكريم Idoya Otegui (الأمينة العامة للاتحاد الدولي لفن الدمى ٢٠١٦-٢٠٢٠) التي أسست هذا المركز مع Miguel Arreche (هو أيضاَ أمين عام سابق للاتحاد العالمي لفن الدمى). كل من يحضر هذا المهرجان يضمن أنه سيشاهد عروضاً ذات نوعية عالية، بسبب الغزارة في الانتاج المسرحي لفن الدمى في أسبانيا والمعايير العالية في اختيار العروض في هذا المهرجان. من الملفت أن إدارة المركز انتقلت منذ أشهر الى شخصين من الفنانين الشباب اللامعين، Juanjo Herrero و Estitxu Zaldua، يعملان لكسب تحدٍّ كبير هو الحفاظ على نجاح الإدارة السابقة ل Idoya Otegui وإضافة روح جديدة طموحة وواعدة.
كما في السنوات الماضية، ينظم مركز توبيك معرضاً في واجهات المتاجر بالتزامن مع المهرجان، لإبراز دمى المركز خارج سياقها الطبيعي وجعلها جزءاً من النشاط الاجتماعي للمدينة. فنرى الدمى معروضةً في الصيدليات ومكاتب العقارات والمكتبات ومتاجر الماركات العالمية.
***
"زمن السلحفاة" El Tiempo de las Tortugas.
لم أتمكن من اغماض عينيّ تلك الليلة من دون كتابة انطباعي عن ذلك العرض المدهش، رغم التعب الشديد.
إنه مزيج فريد بين المحاضرة ومسرح الأغراض والدمى والتجهيز والعرض الأدائي performance، تؤدّيه Dora Cantero (وهي مؤلفة العرض ومخرجته) مع مرافقة موسيقية وأدائية مميّزة ل Joan Bramon Mora. تم العرض في مركز topic في إطار المهرجان الدولي لفنّ الدمى في مدينة تولوسا في اسبانيا.قبل بداية العرض، يوزّع المدير التقنيّ بطاقات عليها صورة سلحفاة يسميها accreditation، على بعض الأفراد المحظيين من الجمهور الذي يجلس في الصف الأمامي، وقد صادف أن كنت منهم وحصلت على تلك البطاقة. انا لا اتكلّم الاسبانيّة، قلت، "لا عليك"، ستفهم، أجاب الشاب واثقاً. وقد لا أبالغ إن ادّعيت أنني فهمت كل كلمة من العرض الذي يعتمد بشكل أساسيّ على النص.
يبدأ العرض بما يشبه المحاضرة عن السلحفاة، الكائن الهش، الرقيق vulnérable، القابل للكسر رغم الدرع المنيع يسكن فيه. نكاد نعتقد في الدقائق الأولى اننا امام حلقة توعية حول البيئة والحفاظ على الكائنات التي في طريقها للانقراض. لكن، لا نلبث أن ننخرط في لعبةٍ خفيّة مع الفكاهة اللطيفة التي تخيّط العرض من الدقيقة الأولى وحتى اللحظة الأخيرة. تتسلل "دورا" الى دواخلنا بأدائها الهادئ الساخر، وتضع أمام وجهنا مرآةً رقيقة لندرك ان الكائن المهدد بالانقراض ليس السلحفاة، انما هو الانسان الذي في داخلنا.
تتكشف تباعاً البنية الرمزية للعرض مع سحب الممثلة للبيانو الخشبي العتيق الى وسط المنصة، بعد أن كان جزءا من الخلفية السينوغرافيّة على يمين المتفرج. يتحوّل هذا البيانو الى نموذج عن بيت السلحفاة، درعها، جسدها، المليء بالتجاعيد والمتاهات. لا أحد يعزف على البيانو، اذ تتكشف لنا مفاتيحه المعطّلة، المحطّمة، كروح تلك المرأة، لا يبقى الا تفكيكها ووضعها في دلو للذكريات. تأخذنا "دورا" في رحلةٍ داخل الأحشاء المجوّفة للبيانو، رحلة في جغرافيا الجسد وتاريخه، في الذكريات والأشياء الحميمة والألحان والقصائد والخواطر، بينما تتابع شرحها "التشريحيّ" الموازي عن الرئتين، والامعاء، والقلب والعظام. تناقض ممتع بين المحاضرة التشريحيّة ووسائل الايضاح على الشاشة وبين ما تدركه العين، والأذن، والمشاعر، والأفكار.(المركز الدولي لفن الدمى Topic)تخبرنا دورا عن رحلة السلحفاة في أعماق المحيطات وعبر الأمكنة والبلدان، عن هجرتها وتكاثرها وضياعها بين الماء وضوء القمر، عن خطر انقراضها، عن كمية النايلون الذي تلتهمه ويعلق في أحشائها بعد أن يخدعها تألّقه في المياه كقناديل البحر (الغذاء الأحبّ للسلحفاة). تنخدع السلحفاة بجمال النايلون، وتنخدع دورا بالأشخاص والعلاقات. ينشطر البيانو/ الجسد في مشهد بسيط ومدهش، يذهب نصفه مع رجل يضيء قلب تلك المرأة، ثم يطفئه في مشهدٍ معبِّر يوحي بتجربةٍ جنسيّة مملّةٍ ومخيّبة.
يدهشنا الأداء الموسيقيّ المحفّز، مقابل هدوء دورا وسخريتها التي تخفي طوال العرض حزناً يرتقي الى التراجيديا. يتسلل Joan مراراً من زاوية الآلات الموسيقية الى قلب العرض، الى قلب المرأة ليؤدي دور الآخرين، كل الآخرين. للصورة حضور قويّ خلال العرض، مع الفيديو الذي يتأرجح دوره بين الرسومات التوضيحيّة، والصور الشاعرية، والقصائد، والذكريات. تفاجئنا الصورة حين تقتحم المشهد لتحرّض العقل بتناقضاتها وتعارضه مع النص والاداء التمثيلي والموسيقي. توظيف الصورة لا يزيد نقطةً عن ما هو ضروري في البنية الدراماتورجيّة للعرض. لا ادّعاء، لا عرض عضلات فنية وتقنية، لا عبادة للشكل، سلاسة، بساطة وعمق.
دورا التي تغطي أنوثتها بطبقاتٍ سميكةٍ من الأقمشة، تعطي انطباعاً متناقضاً عن الشخصية التي تلعبها، تارة نشعر بأنها امرأة رصينة عمليّة متجردة من العواطف تلقي محاضرة علمية، وتارة أخرى تبدو كأنها فتاة صغيرة أو صبيّ أو حتى كائن منغلق متجرّد من أية هوية جنسية. ثم تتخلى تدريجياً عن تلك الملابس لتبدو في النهاية امرأة شابة ضعيفة البنية سهلة الانكسار، روحها مجوّفة مثل هذا البيانو.
قبل نهاية العرض يدخل طيف رجل، نراه من الخلف على الفيديو، يتحوّل المسرح كله الى شاشة فيتداخل الحنين بالواقع، يعزف الرجل/ الطيف على البيانو ويعزف على روح دورا. تقترب لتلمسه، لتضمّه وتنصهر به، لكنّ الطيف ينسحب وتنطفئ الصورة لتبقي بيد دورا قطعة قماش خاوية. تردد وهي تبتسم: أنا لا أبكي أنا لا أبكي، لا أبكي... وتتكئ على البيانو المحطّم من الداخل وتبكي صامتة بينما يلعب شريكها على الغيتار.
مسرحية تمرّ بهدوء لتحفر وشماً في الأعماق.
(*)مدونة نشرها المسرحي كريم دكروب في صفحته الفايسبوكية