2024- 06 - 28   |   بحث في الموقع  
logo "لا تراجع"... دعموش: المقاومة جاهزة لكل الإحتمالات logo "من داخل المطار"... إسرائيل تنشر "فيديو تحذيري" للبنانيين! (فيديو) logo "فوضى وعشوائية" تضرب قطاعًا هامًا... وللمتضرّرين: بلّغوا فورًا! logo الحجار: فريق عمل "أمان" مستمرٌ بمعالجة الشكاوى logo "الهجرة ودورها في توطين الإسلام في أوروبا: بريطانيا نموذجاً" logo عزرا باوند... الملحمي الملعون logo لـ"مكافحة الاعتراف" بالدولة الفلسطينية... إسرائيل توافق على إجراءات سموتريتش logo مسؤول إسرائيلي يتحدّث عن "لعبة أميركية ثنائية" لمنع الحرب مع لبنان
"الميراث" لميغيل بنوفوا.. ضيق الأرض وسع الحلم
2022-11-25 10:56:06

صدرت لدى دار "كلمات" السعودية، رواية "الميراث" للكاتب الفرنسي ميغيل بنوفوا، ترجمة عبد الوهاب الملوح... جاء في تعريف الرواية: "عائلات ترکت بلدانها الأصلية فرنسا حيث ولدت ونشأت وهاجرت تبحث عن حياة أخرى في أميركا الجنوبية ما أضيق الأرض وما أوسع الحلم". الروائية حائزة جائزة المكتبات 2021. وهنا فصل من الرواية- "خاص المدن":

طالت مدة السفر في البحر الذي أشعر لازار بالجزع الممتزج بالانبهار. بينما لازم روبير قُمَّرته يقرأ ولم يخرج منها أما شارل فكان يتسكع علي ظهر السفينة يدخن يستمع لما يثرثر به المجندون الذين كانوا يؤدون أناشيد عسكرية عند الصباح ومارشات بطولية، وحين يحل المساء، عند الغروب يتداولون فيما بينهم قصصا مرعبة تحكي إن السماء تمطر جثث عصافير في الجبهة، والليشمانية تنبت حلازين في البطن وإن الجنود الألمانيين يكتبون الحروف الأولي من أسمائهم علي جلود المساجين بالسكاكين، وإن هناك أمراضا قد اندثرت من عهد البارون بونتيس قد ظهرت مرة أخرى. مازال لازار يعتقد إن فرنسا مجرد وهم وما هي سوى خرافة ألفتها مجموعة من القصص، غير إنه ما إن لمح بعد أربعين يوما من الإبحار سواحلها، أدرك إن الفكرة الوحيدة التي لم تخطر له علي بال هي إن فرنسا موجودة بالفعل.
وهو يستعد لمغادرة الباخرة، ارتدى لازار بنطلونا مخمليا، موكاسين بكعب قصير وسترة مزركشة بحلقات حلزونية الشكل كان قد أخذها من أبيه، وضع قدميه على الميناء بثيابه التشيلية هذه وبسذاجة شخص مازال يرى نفسه مراهقا، وليس بزهو من كان يعد نفسه ليصبح جنديا. أما شارل فكان يلبس زي بحارمخطط بالأزرق وقلنسوة من القطن بطرَّة حمراء. حفَّ شاربه وجعله رقيقا، متناظرا بشكل لافت مزينا الشفة العليا مثلما تعود أجداده سكان بلاد الغال الأمجاد، والذين اعتادوا أن يرطبوا هذه السبلة من الشارب بشيء من ريقهم. أما روبير فكان يلبس قميصا واقية الصدر وبنطلونا من الساتان تاركا ساعة فضية تتدلي من خصره وقد شدها إلى حزام البنطلون بسلسة صغيرة، وحين عثروا عليها يوم مماته كانت الساعة مازالت تشير للتوقيت في التشيلي.
أول ما لفت انتباه الإخوة الثلاث وهم ينزلون علي الرصيف، رائحة المكان التي بدت لهم شبيهة بتلك الرائحة في ميناء فالباريزو. لم يكن الوقت يسمح لهم بالتحدث في هذا الأمر فسرعان ما صففوهم ضمن طابور تحت قيادة ضابط ووزعوا عليهم زي الجندية، بنطلونا أحمر، معطفا مشدودا بصفين من الأزرار، لفائف حول السيقان وزوجي جزمات عسكرية جلدية. صعدوا بعد ذلك شاحنات عسكرية خُصصت لنقل آلاف النازحين إلي جبهات الحرب، قدموا ليمزقوا أنفسهم في قارة كان آباؤهم قد تركوها بلا عودة. وهم يجلسون على مقاعد قبالة بعضهم البعض لا أحد منهم كان يجيد الحديث بالفرنسية باستثناء لازار الذي تعلمها بفضل مطالعاته للكتب من خلال كلمات مختارة وعلامات رمزية. أما هنا فكانوا يعطون أوامر بلغة متخشبة، يشتمون عدوا لا مرئيا، وعند المساء حال وصولهم اصطفوا في طابور أمام أربع طناجر معدنية كبيرة وقف خلفها طباخان يعيدان تسخين مرقة امتلأت بالعظام لم يكن يسمع سوى حديث بلهجات البروتون المحلية. وقتها فكر لازار في لحظة ما أن يعود إلى الباخرة ويرجع إلى بيته هناك في التشيلي، غير إنه تذكر وعده وقرر إنه لئن كان هناك واجب وطني خلف الحدود فإنما هو الدفاع عن وطن الأجداد.
كانت مهمة لازار لونصونييه في الأيام الأولي القيام بدعم الخنادق وتثبيت الدعائم وسواتر الرمل، والانشغال بتهيئة الأرض من أجل تركيز لافتات مربعة الشكل، لدرجة إنه لم يجد الوقت ليشعر بالحنين إلى التشيلي. لقد قضَّى هو وإخوته أكثر من سنة في تثبيت الأسلاك الشائكة، تقاسم نصيبهم من الغذاء ونقل حقائب المتفجرات، وسط مسالك صغيرة، ملغمة بين سريات المدفعيات عند خطوط النار. في البداية ولكي يحافظوا على كرامتهم كجنود كانوا حين يعثرون علي منبع ماء يتقشفون في استعماله أثناء الاستحمام، مستعملين القليل من الصابون لغسل أياديهم برغوة رمادية. لذلك تركوا ذقونهم تنمو دونما عناية ليس إهمالا ولكن لأنها موضة ذلك العصر حتى ينالهم شرف تسميتهم بالجنود المشاة، وبمرور الأيام والأشهر أصبح ثمن الكرامة مُهينا. إذ كانوا ينخرطون عراة وسط المرج القريب ضمن مجموعات تتكون كل واحدة منها من عشرة أفراد في تمرين فلْي القمل المُذِلِّ، وقد غطَّسوا ملابسهم داخل الماء المُغلَّى، ينظفون بنادقهم بمزيج من السخام والدباغ؛ ثم يرتدون أزياءهم الرثة، الملوثة، الممزقة والتي ظلت رائحتها تطارد لازار حتى في أحلك سنوات صعود النازية.
انتشرت إشاعة بين الجنود مفادها إن من يأتي بمعلومة من جبهة العدو يحصل على ثلاثين فرنكا وسرعان ما حاول المشاة الجوعى أن ينالوا فرصتهم حتى في أتعس الظروف، فمضوا بعيدا عن معسكرهم؛ يزحفون بين الجثث المغطاة باليرقات؛ يجُرُّون خطاهم وسط الوحل مثل حيوانات، مركزين على أي شق يعترضهم يصغون السمع، من خلال شعورهم المتجعدة، علهم يظفرون بتاريخ ما، ساعة ما، إشارة لبدء هجوم وقد استطاعوا التسلل للخطوط الألمانية يرتجفون من الخوف والبرد وهم يؤدون دور العسس الخفي وهو ما جعلهم يقضون ليال كاملة أحيانا مقرفصين في حفر أحدثتها قذائف. والوحيد الذي استطاع الظفر بالثلاثين فرنكا كان صبيا قادما من مانوسك ويُدعى أوغستين لاتور حكى إنه وقع ذات مرة على جثة ألماني مكسور الرقبة على إثر سقطة في هاوية أحد الأودية. ولما فتش جيوبه لم يعثر على شيء مهم عدا رسائل بالألمانية وبعض الماركات، أوراقا وقطعا نقدية بثقوب مربعة الشكل في وسطها، غير إنه عثر على طية جلدية على مستوى الحزام ورأي الثلاثين فرنكا مطوية بإحكام وكان الألماني قد سرقها بدوره من جثة جندي فرنسي فلوَّح بها مزهوا بنفسه وهو يهتف:
لقد سددت دَيْن فرنسا.
في تلك الفترة تقريبا، تمَّ اكتشاف بئر عند منتصف الطريق بين خندقي العدوين ولآخر أيام حياته لم يعرف لازار لونصونييه كيف استطاع العدوان أن يتفقا علي وقت لإطلاق النيران للتزود بالماء من البئر. تتوقف الطلقات النارية بين الطرفين؛ وعند منتصف النهار بالضبط يغادر جندي فرنسي الخندق ويقصد البئر حاملا سطلين كبيرين يتزود بالماء ويعود القهقرى علي أن لا يتجاوز النصف ساعة، ويقوم الجندي الألماني بنفس الشيء. ما إن يُتِمَّ الفريقان تزودهما بالماء يشرعان في تبادل إطلاق النار من جديد. تتكرر هذه الرقصة السوداء كل يوم بدقة عسكري محكمة. دونما أي تجاوز من أي جهة، في احترام دقيق لرموز فروسية الحرب، إلى درجة إن العائدين من البئر يرددون فيما بينهم بعد صراع دام سنتين، إنهم لأول مرة يسمعون زقزقة بعيدة للعصافير أو صوت رحى المطحنة.تطوَّع لازار ذات يوم لجلب الماء ، اندفع خارج الخندق وفي مقدمة ذراعيه أربعة دلاء ونحو عشرين مَطَرَة في حزامه وحوض غسيل في يديه، بعد عشر دقائق من السير بلغ البئر وهو يتساءل كيف سيعود بكل هذه الأواني ممتلئة بالماء. كانت البئر تُشيع حزن مِطيَرة مقفرة وهي محاطة بمثابة متقادمة وجدار صغير متآكل وقد ترامت في الأطراف هنا وهناك أوان مثقوبة بالرصاص بينما لاحت غير بعيد سترة عسكرية قد تركها أحدهم أثناء عودته من البئر.
شدَّ مقبض الدلو إلى حبل وأنزله في البئر إلى أن سمع بقبقة الماء وما أن شرع في جذبه برزت أمام ناظريه فجأة كتلة تشبه الصخرة.
رفع لازار رأسه وإذا به وجها لوجه مع جندي ألماني يوجِّه مسدسه صوبه وقد تغطي وجهه بوحل التخفي. ألقى لازار الحبل من يده تاركا الدلو يقع في البئر وتراجع إلى الخلف ينشد الفرار غير إنه صاح قائلا وهو يتعثر في صخرة".
تبا؟"
وانتظر الرصاصة التي لم تأت، فتح عينيه ببطء شديد والتفت نحو الجندي الذي تقدم بخطوة نحوه مما دفع لازار للتراجع إلى الخلف. كان الألماني في مثل سنِّ لازار غير إن زيه وحذاءه العسكري وقبعته كل هذا يوحي إنه أكبر منه عمرا. خفض الجندي الألماني مسدسه وسأله:
هل أنت تشيلي؟"
وصل هذا السؤال إلي مسامع لازار في شكل همس إسباني سليم النطق، هَمْسٌ إسباني ظهرت له من خلاله طيور الكوندور الجامحة وغربان البحر وأزهار الآس التشيلية وتلك الأنهار التي تتنفس أشجار اليوكاليبتوس.
نعم؛ رد لازار
فبدا علي الجندي الألماني وقتها شيء من الارتياح وسأل لازار مجددا
من أي مدينة أنت؟
سانتياغو
ابتسم الألماني وهو يقول:
وأنا أيضا اسمي هلموت دريخمان
يا للمفاجأة لقد عرف لازار جاره الذي يقطن بشارع سانتا دومنغو والذي كان قد سأله منذ سبعة عشرة سنة خلت عن أصول اسمه. وها هي الحرب قد جمعتهما مجددا لكن كل واحد منهما في الجهة المعادية للآخر. لقد انخرطا الاثنان في مغامرة عبور المحيط ليدافع كل واحد منهما عن بلد آخر وعلم آخر وها هما الآن يلتقيان للتزود بالماء عند هذا المنبع الذي شهد ولادتهما.
اسمعني. إنهم هنا يعدون لهجوم مفاجئ عشية الجمعة. تصرف بشكل أن تكون مريضا وقض الليل في المصحة قد ينقذ هذا حياتك.
لفظ هلموت دريخمان هذه الكلمات بدون أن يعمل لها أي حساب أو يخطط لها. تلفظ بها كما لو يسقي شخصا ظمآن الماء، ليس لأننا نملك الماء ولكن لأننا نعرف معنى العطش. نزع الألماني قبعته عن رأسه وقتها فقط تبين للازار وجه مخاطبه بوضوح الذي اكتسى بجمال مرمري كامد وصلب وقد اصطبغ بلون متحفظ حيث الزنجار يذكِّر بالجمال الخفي للتماثيل القديمة. تذكر لازار كل أؤلئك الجنود الذين ينامون في حفر في انتظار المبادرة بحوار ما أو الكشف عن مخبأ لكتيبة العدو أو اكتشاف الموقع السري لبطارية معادية. لقد استوعب جيدا السر الذي باح به هلموت والذي بدا له فجأة مقنعا وعبثيا، وقد بدا له هذا الألماني مكابرا وسخيفا في الأبعاد الحقيقية للتاريخ.


وكالات



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2024
top