لنعرض أولاً بعض المقدمات...منذ نشوء الحضارات، وبخاصة بعد التقدم العلمي التكنولوجي الهائل في العقود الأخيرة، ازدادت الخيارات المـُتاحة للإنسان في جميع مجالات الحياة. ومع ازدياد الخيارات، تزداد بطبيعة الحال حرية الإنسان في الاختيار.وإذا بدأنا من الطرف الآخر، من مفهوم الحرية أولاً. يمكن القول إنّ الثقافة الإنسانية الحالية، في سعيها إلى تحسين رفاهية الإنسان ونوعية حياته، تعتبر هدف زيادة حريّة الإنسان الفردية إحدى أهم الركائز لتحقيق ذلك. الحريّة الفردية (ضمن لعبة القوانين) تمنحنا الفرصة كي نعبّر عن قدراتنا بأفضل طريقة. الحرية تفسح المجال للإبداع الفردي. هذا كلّه جيد للمجتمعات الإنسانية.ليس هذا فحسب. بل الفرضية الضمنية الحديثة تؤكد بأن ازدياد منسوب الحرية لا بدّ أن يمنح الفرد مقداراً أكبر من الراحة والسعادة الشخصيين. وإحدى أهم الوسائل لتحقيق المزيد من الحريّة هو إعطاء البشر المزيد من الخيارات. حضارتنا الحديثة تفوقّتْ في هذا المجال. فمع التطوّر التقني انفجرت قائمة الخيارات أمام الإنسان الحديث في جميع مناحي الحياة. الآن، لا نعدم قراءة لائحة طويلة من الأطعمة إذا ذهبنا إلى أي مطعم، لائحة تجعلنا نصرف قدراً هائلاً من حريراتنا الدماغية محاولين معرفة ماذا نريد. لائحة خيارات لم يكن يملكها الهوموسيبيان أول ظهوره. ندخل إلى مقهى، فنرى أمامنا خيارات عديدة من أنواع القهوة المختلفة. خيارات أكثر في حياتنا المهنية، في أنواع السيارات، في الأماكن التي يمكن أن نقيم فيها، في الألبسة التي نرتديها. خيارات أكثر في كل مكان. حتى الطبيب الحازم سابقاً، بدل أن يخبرنا الآن عن أفضل علاج لنا، يعطينا أكثر من خيار، ويطلب منّا بكل لطف أن نختار. ومع تقدّم الحضارة، الخيارات في تزايد وتنوع لا يتوقف. خيارات أكثر تعني حرية أكبر لنا، وبالتالي سعادة أكبر، أليس كذلك؟ للأسف ليس بالضرورة.يبدو أن كثرة الخيارات لا تجلب سوى التردّد والصداع، والقلق، والمزيد من الندم والتعب والتعاسة. ولدينا المربّى دليلاً على ذلك.في العام 2000، نشر باحثان في علم النفس (شينا أينغار ومارك ليبر) في جامعتي "كولومبيا" و"ستانفورد" في ولاية كاليفورنيا دراسة هامة شهيرة عن المربّى. وضع صاحبا الدراسة في إحدى السوبرماركيتات 24 نوعاً من المربّى على الرفوف. في اليوم التالي، وضعا ستة أنواع فقط. ثم عادا إلى 24 في اليوم الثالث وهكذا. مبيعات المربّى كانت دائماً أعلى في الأيام التي كانت فيها الخيارات ستة فقط. في الأيام ذات الخيارات الأكثر، كانت الناس تقضي وقتاً أكثر في التفرّج والاستكشاف، لكن دون أن تأخذ قراراً بالشراء.تجربة المربّى كانت أول الغيث. فكل ما جاء من دراسات بعدها، في علم النفس والمبيعات والاجتماع أكدّت النتيجة نفسها. الزيادة في عدد الخيارات يؤدي من الناحية التجارية إلى مبيعات أقل؛ من الناحية الاجتماعية إلى حيرة وتعب؛ من الناحية الفردية إلى المزيد من القلق والتخبّط والتوقعات المبالغ بها والصعبة التحقّق.عالم النفس الأميركي في جامعة كاليفورنيا باري شوارتز يخبرنا كل ذلك وأكثر في كتابه الممتع "مفارقة الاختيار - The Paradax of Choice" (2004) وفي محاضراته اللاحقة حول الموضوع. يؤكّد شوارتز أن تقليل الخيارات الاستهلاكية يمكن أن يُحسِّن من صحتّنا النفسية، وأن كثرة الخيارات المطروحة لا تفعل سوى أن تجعلنا في النهاية أكثر تعاسة. طبعاً، في دراساته، لا يخبرنا شوارتز نتائجه المفاجئة المخالفة لما كنا نحدس به فقط، بل يبحث في الأسباب أيضاً.أولاً، كثرة الخيارات يمكن أن تؤدي إلى ما يُسمّى بـ"الشلل التحليلي". أي التحليل الزائد لخيارات كثيرة يؤدي إلى عجز وبطئ في اتخاذ القرار. يؤدي إلى نوع من العنانة العقلية. كلّ متفرّج نهم للتلفزيون في هذا العصر عانى هذا النوع من الشلل في اتخاذ القرار وهو يمسك الريموت كونترول مقلّباً جيئة وذهاباً القنوات المئة المتاحة للتفرّج. ندخل في دوامة التفكير الدائري الذي يبدأ من خيار وينتهي إلى الخيار نفسه، من دون أن نستطيع التوقف في نقطة ثابتة.ثم هناك ما يُسمّى بـ"ندم المشتري". كلّما كثرت الخيارات، وبعكس المتوقع، يصعب الاقتناع بجودة ورجاحة خيارنا الأخير. مثلاً، حتى بعد اتخاذ قرار بشراء سلعة ما بعد بحث طويل، تبدأ الشكوك بالتسللّ إلى رأس المـُشتري عن رجاحة قراره، يتبع الشكوك أحاسيس الندم على قرار الاختيار. يتصوّر صاحب القرار أنه لا بدّ من وجود خيار أفضل لم ينتبه إليه. خيار لا بد كان سيجلب للمُشتري سعادة أكبر، من دون أي دليل على ذلك سوى توقعاتنا الخيالية.تتفرّع عن "ندم المشتري" حفرة نفسية أخرى يمكن أن توقعنا فيها الحرية الزائدة. فكثرة الخيارات تزيد من توقعاتنا الإيجابية. نبذل من الجهد الكثير كي نحدّد اختيارنا النهائي، لذلك نتوقع ونأمل أن يجلب لنا خيارنا سعادة وراحة كبيرتين. خيارنا لا بدّ بعد كل هذا التعب أفضل الموجود، نقول لأنفسنا. لكن هذا لا يحصل في معظم الأحوال. توقعاتنا الإيجابية تكون متضخّمة إلى درجة من النادر أن يستطيع خيارنا مجاراتها. لعبة التوقعات يمكن أن تكون خطرة أحياناً. شوارتز ينصح، سرّ السعادة هو في التوقعات المنخفضة دائماً. أخيراً يمكن أن نُنهي لائحة الأسباب بما يُسمّى "استنفاد الأنا". هذا العالم الحديث الذي بات محيطاً شاسعاً من الخيارات نغوص فيه كل يوم، محيطاً علينا في كل لحظة أن نحرّك فيه مجادف أدمغتنا كي نستطيع الطوفان، صار عالماً مُتعِباً مُستُهلِكاً للطاقة. عملية التفكير المستمرة بنوع التلفون الذي يجب أن نقتنيه، والأغنية التي نريد سماعها، والفيلم الذي نودّ مشاهدته، تدفعنا إلى هدر الكثير من الوقت والطاقة دون مردود إيجابي ملموس على حياتنا. (يُقال إن ستيف جوبز كان يرتدي دائماً النمط نفسه من الملابس من دون تغيير، حتى لا يهدر الكثير من الوقت في التفكير في خيارات لباسه). كما أن التعب الذي يُصيب جملتنا العصبية من عدد الخيارات اليومية التي علينا اتخاذها يقلّل في النهاية من جودة القرارات التي نتخذها.تقليل الخيارات التي يجب التعامل معها يجعلنا أكثر راحة وسلاماً وسعادة، يقول شوارتز. ليس من الصعب تخيّل جنّة واقعية كهذه، حيث الخيارات محدودة في كل شيء، بحيث تصبح المسؤولية الملقاة على أكتافنا أقل بكثير. في جنة كهذه، أتوقع أن تكون ملامح الوجوه مسترخية أكثر، والقلوب مطمئنة أكثر إلى خياراتها القليلة المحدودة.لكن الجنّات غير موجودة سوى في الكتب المقدسة. وعالمنا الاستهلاكي سيبقى هكذا، بل سيسوء الأمر مع تطوّر الحياة البشرية وتعقّدها. ستزداد خياراتنا يوماً بعد يوم. وسيكون على عاتقنا نحن، أن نفعل شيئاً كي ننقذ أنفسنا. لسنا مضطرين للمشاركة في لعبة الخيارات اللانهائية هذه. يمكن أن نضع شروطنا الخاصة. أن نقلّل من طرفنا الخيارات التي نتعامل معها. أن نقنّن من وقتنا المهدور، وأن نعيش حياة فيها قدر أكبر من عدم التردّد والسرعة في اتخاذ القرارات.في النهاية، كما يعرف كثيرون من تجارب شخصية، الخيارات المعروضة أمامنا غير مختلفة عن بعضها كثيراً، وغالباً ما تكون أفضل القرارات تلك التي لا نتقلّب ولا نتردّد كثيراً قبل اتخاذها.