علي الهادي طليس شاب في التاسعة عشرة، خرج فجأة إلى الضوء حين قرر أنه مبدع لديه عشرات الاختراعات، ومجموعة من الشهادات الجامعية العالمية، وقد حقق رقمين قياسيين (أو أكثر) أدخلاه موسوعة غينيس.كيف تُعرف الكذبة؟ حين تكون أفضل من أن تكون حقيقة. وعلي الهادي لم يكن متواضعاً للحظة وهو يعلن سلسلة إنجازاته. أصغر مخترع في العالم. أصغر محاضر جامعي. صاحب براءة اختراع بنكرياس صناعي. مخترع روبوت يحول الاوكسيجن إلى أوزون ويتنقل في غرف المستشفيات قاتلاً الكورونا بينما يقدم الطعام للمرضى في أسرّتهم. وحين كُشفت حيل علي الصغيرة، لأن آخرين غيره يجيدون البحث على غوغل، وارتفعت موجة عارمة من التهكم عليه، لجأ الشاب إلى الإمعان في الإنكار، وبالتظلم بأن حرباً تشن عليه لأنه من بريتال، وبالانتقال إلى ما يشبه الهذيان، وهو يعد الناس بمفاجآت كبيرة آتية منها استبدال وقود السيارات بالهواء والماء.
مأزق علي ليس في كل هذا. مأزقه الفعلي يكمن في أنه لا يستطيع أن يدخل غينيس حتى كأول مخترع اختراعات وهمية. سبقه ما لا يحصى من طامحين، من كل الكوكب، خرجوا بعلب بلاستيكية غريبة الشكل تصدر أصواتاً مبهمة وقالوا إنها تصنع معجزات، كتحويل الإيدز إلى كفتة، أو تحويل هواء المريخ إلى أوكسيجين فيتسنى لنا حل مشكلة الادجام على كوكبنا بالانتقال إلى الكوكب الأحمر.
علي الهادي، الذي يبدو شغوفاً بالإلكترونيات والعلوم ولديه معرفة واطلاع يسبقان أترابه في هذا العالم، مشكلته أنه لا يفقه العلم، أو على الأقل لا يراه مقدساً. المقدس الوحيد عند علي المتدين، هي السماء. هي التي تقول للأشياء كوني فتكُن. العلم هو النقيض التام للمعجزات. العلم ممل ومرهق وبطيء وتراكمي وموسوعي وتشكيكي وبطيء، يشبه مراقبة شجرة وهي تنمو. يشبه التقليد المعتمد منذ فترة لا بأس بها عند البشرية بالدخول إلى مدرسة والتدرج في صفوفها والتخرج منها والانخراط في الإكاديميا لتلقي العلوم المناسبة التي تبرر للمرء دخولاً منطقياً في آلة عظيمة يكون فيها جزءاً من أجزاء، تعمل لكي تطور وتخترع. آلة هائلة من جامعات ومراكز أبحاث وعلماء وإلى آخره. ما لا يريد الاقتناع به مطلق علي هادي، لبنانياً كان أم مصرياً أو حتى أميركياً، أنه لا يوجد مخترع منفرد. لا يمكن لشخص أن يخترع شيئاً جديداً في غرفته أو في الحديقة خلف بيته. وأصدقاؤه، ونائب الطائفة (الدكتور ابراهيم الموسوي في حالتنا هذه) قد يمدحون هذا العبقري الصغير، لكنهم ليسوا مجتمعاً علمياً، ولا يعرفون شيئاً عما يحدث في هذا العالم المعقد البعيد بشدة عن أن تفاحة سقطت على رأس نيوتن فاكتشف الجاذبية، أو أن سطراً في كتاب مقدس يشرح علم الفلك برمته، من الانفجار الكبير إلى الثقب الأسود، وما بينهما.
وكما ليس هناك مخترع من عدم، هناك شاب في التاسعة عشرة من عمره لم يأت من عدم ليدعي ما ادعاه. علي الهادي ابن قرية نائية، لكن شغفه بالعلوم لا يفرق بشيء عن صبي ألماني (قد يكون من أصل لبناني) أصيب، في السن ذاته، بالانبهار نفسه الذي أصيب به علي، بالتكنولوجيا والفيزياء والكيمياء. الصبي الألماني سيجد ما يشبع به شغفه. سيجد مكتبة مدرسية وعامة حقيقيتين، ومتحف علوم، وتاريخاً لبلده واسهاماته، ومختبرات في مدرسته الرسمية، ومسابقات ل"مخترعين" صغار قد لا تعدو اختراعاتهم صنع نموذج لبركان ينفجر، لكنها بمثابة تشجيع على فهم العلوم وعلى المضي قدماً في شغفهم. تحضنهم بالأحرى. من يحضن علي الهادي، في بلد يسقط حجر من سقف الصف على تلميذة يسحقها، غير نائب يقرر أن يتبجح بأن الطائفة أنتجت عبقرياً آخر بعد حسن كامل الصباح؟ أي سياق طبيعي للصبي الذي يؤمن بقدراته وموهبته يسير فيه كي يتجنب فخ الاستسهال ويقرر الاحتيال في عالم بات من المستحيل الاحتيال فيه؟ علي الهادي بسيط إلى حد السذاجة، وهو ليس مسؤولاً وحده عما وقع فيه. المسؤولية تقع على عاتق مجتمع محيط نفخ فيه من حيث لا هو يدري ولا المجتمع. يحمّله قضايا كبرى، وهو الذي أقصى طموحه صنع روبوت يشبه مكنسة كهربائية تجيد تنظيف الغرفة وحدها. لكن لا. علي الهادي يجب أن يحمل هموماً وطنية من حجم تغيير الصورة النمطية عن بريتال وأهلها، كأن الذي حسم أمره بأن القرية أو المنطقة حكر على اللصوص وقطاع الطرق سيغير رأيه إذا ظهر فتى بملامح بريئة ليقول إنه اخترع بنكرياس. لكن لا. علي الهادي سيكون سلاح لبنان ضد الغرب الذي يمضي لياليه ونهاراته في التخطيط لاستنزاف لبنان وتهجير الأدمغة إلى مختبراته وشركاته، ثم قتلها بعد ذلك، والدليل حسن كامل الصباح.
علي الهادي مذنب لكن ليس وحده. كان يمكن ألا ينتبه أحد لعلي الهادي لولا عشق الإعلام للعناوين البراقة، من مثل لبناني أصغر مخترع في العالم. كان ليظل مجهولاً، لولا أنه تحول إلى هدف تسجله طائفة في مرمى الطوائف الأخرى، مثلما تحول المتفوقون في آخر امتحانات رسمية إلى انتصار آخر، علمي هذه المرة، لطائفة على منافساتها.
لنعد إلى ألمانيا. لو أن علي الهادي برليني مثلاً، لكانت الألعاب التي يصنعها مستحبة وربما أكثر تطوراً من التي صنعها في مسقط رأسه، بسبب توفر المواد الأولية على الأقل، والمعرفة. وقد تجد لها مكاناً في معرض العلوم السنوي في المدرسة. وفي الجامعة، كان ليطور مع رفاقه آلة صغيرة توصل بعصا المكفوفين وتساعدهم في مشيهم. إنجاز لن يدعي أنه اخترعه بمفرده، لكنه سيتخرج بعده مهندساً ويجد عملاً يليق بشهادته، ويحافظ على مصداقيته التي لا شك بأهميتها في هذا العالم الذي لا يحب المحتالين.
هذا على الأقل ما يفعله طلاب في الجامعات اللبنانية على اختلاف مستوياتها. يعملون بصمت ويسلكون الدرب الطبيعية لمن مثلهم. يجتهدون ويتخرجون ويهاجرون، لأن علي الهادي لن يستطيع منع أدمغتهم من الهجرة، ولأن لا أرقام قياسية تُكسر في البلد غير رقم قياسي واحد حققه لبنان في الرابع من آب، ومن الأفضل تفادي كسره مجدداً.
موهبة ضائعة هذا الشاب. مع ذلك، فالفرصة لم تفت بعد. لقد نال ال 72 ساعة من الشهرة، وسيُنسى تماماً مع انطلاق المونديال. عندها سيجد وقتاً كافياً للجلوس إلى نفسه، ومراجعة دروسه، والتعمق في فهم العلم، وتقديسه، والإيمان العميق بأن بريتال ليست آخر العالم، وأن ليس بين نواب لبنان وسياسييه منذ عقود، ربع ألبرت آينشتاين، وإلا لما كان هذا حال علي الهادي وحال بريتال وحال البلد، وحالنا جميعاً.