في الأسبوع الفائت، نظّمت دائرة السياحة والآثار في إمارة أم القيوين بدولة الإمارات، جولة سياحية في جزيرة السينية للوقوف على آخر الاكتشافات فيها، وأبرزها اكتشاف أطلال دير مسيحي يعود تاريخه إلى الفترة الممتدة ما بين القرنين السادس والثامن الميلاديين بحسب تيموثي باور، الأستاذ المشارك في علم الآثار في جامعة الإمارات، والذي رافق البعثة التي قامت بالكشف عن هذا الدير.تُعتبر أم القيوين ثاني أصغر إمارة من حيث المساحة، وتقع على ساحل الخليج العربي، على خور البيضاء. يعود تاريخها إلى آلاف السنين، ويُقال إنها المنطقة الأقدم في الغوص على اللؤلؤ في العالم. تضم هذه الإمارة عدداً من الجزر التي تحفل بطيور النورس، والأرانب، والغزلان البرية، إضافة إلى عدد من المواقع الأثرية التي يعود تاريخها إلى فجر الإسلام. وجزيرة السينية واحدة من هذه الجزر، وتُعدّ من أبرز المعالم السياحية في الإمارة لما تزخر به من مقومات طبيعية، وقد حظيت باهتمام كبير من قبل الحكومة، ممّا جعل منها قبلة للسياح في الإمارة ومن خارجها. يبلغ طولها حوالى عشرة كيلومترات، وعرضها في أقصاها أربعة كيلومترات، وتقع على بعد كيلومتر واحد من مدينة أم القيوين، ويفصل بينها وبين المدينة خور أم القيوين.تحوي هذه المحمية الطبيعية مواقع أثرية متنوعة، ومنها القبور والبقايا البنائية والتلال الصدفية والأبراج، وأشهر هذه الأبراج برج النهار وبرج البحر اللذان يُستخدمان لإنارة السفن. تنتشر القبور الأثرية في أطراف الجزيرة، وتتألف من مجموعتين، تحوي إحداها قبوراً فردية، وتحوي الأخرى مقابر جماعية يتراوح عدد القبور في كلّ منها بين عشرة قبور ومئة قبر. في هذه الجزيرة، أُعلن رسميّاً، الأسبوع الماضي، اكتشاف بقايا أطلال دير مسيحي يعود إلى الفترة الممتدة ما بين القرنين السّادس والثّامن الميلاديَّين. نقل هذا الخبر رئيس دائرة السّياحة والآثار بأم القيوين في الإمارات، ماجد المعلا، وأوضح في حديثه أنّ "البيئة التّاريخيّة لجزيرة السينية تضمّ عددًا من أهمّ المواقع الأثريّة والسّياحيّة في إمارة أم القيوين، الّتي تُعدّ بمثابة سجلّ حيّ لمختلف المجتمعات الدّينيّة والمجتمعات المتعدّدة الثّقافات الّتي استقرّت في الجزيرة، على مدى القرون الماضية".ورأى المتحدّث أنّ "جزيرة السينية لعبت دورًا مركزيًّا في تاريخ إمارة أم القيوين ودولة الإمارات ككلّ منذ ما يقارب 2000 عام". وشدّد على أنّ "الدّير يُعدّ دليلًا آخر على وجود الطّوائف المسيحيّة، الّتي عاشت جنبًا إلى جنب مع المجتمع الإسلامي بساحل الإمارات قديمًا". بدورها احتفلت وزيرة الثقافة والشباب الإماراتية، نورة الكعبي، بهذا الاكتشاف، وكتبت في تعليقها: "يحمل هذا الاكتشاف الأثري قيمة تاريخية وتراثية عظيمة لدولة الإمارات، التي تبذل حكومتها جهودًا كبيرة لحماية التراث المحلي، وحفظه وتعريف الأجيال المقبلة به".وعملية المسح في هذا الموقع بدأت في العام 2021، وقد تواصلت أعمال التنقيب فيها خلال موسمين حتى الآن، وأدّت إلى اكتشاف ما يقارب اثني عشر غرفة في هذا الدير. في الموسم الثاني، تم التعاون مع العديد من المؤسسات الرائدة في مجال التنقيب من داخل الدولة وخارجها، وتم اكتشاف مجمع الدير الذي يضمّ كنيسة تتألّف من رواق واحد، ومجموعة غرف الرهبان. كذلك، تمّ الكشف عن العديد من اللقى والكسر الفخارية والزجاجية، إضافة إلى مصباحين من البرونز عُثر عليهما داخل الكنيسة، وكأس من الحجم الكبير تُستخدم كما يبدو في خدمة القدّاس. بحسب التقرير التمهيدي لهذا الاكتشاف، تمّ بناء الدير من صخور الشاطئ المحلية، وكُسيت جدرانه وأرضياته بالجصّ الجيري، كما يشير الفخار والزجاج المستخرج منه إلى أن سكانه كانت لهم روابط تجارية دولية امتدّت من العراق إلى الهند. تعود هذه اللقى إلى الفترة الممتدة من القرن السادس إلى القرن الثامن، ويستند تأريخ الموقع بشكل أساسي على هذا العنصر. ويُنتظر أن يواصل المنقبّون العمل في الموقع خلال موسم ثالث لم يُعلن عن موعده بعد.سلسلة من الاكتشافات المسيحيةلا يُمثّل هذا الاكتشاف حدثاً استثنائياً من نوعه، إذ يُشكّل حلقة في سلسلة من الاكتشافات تشهد للوجود المسيحي في شرق الجزيرة العربية. يأتي اكتشاف دير جزيرة السينية بعد اكتشاف دير مشابه في جزيرة صير بني ياس العام 1992، وتُعتبر هذه الجزيرة من المواقع الثمانية التي تشكّل جزر الصحراء في منطقة الظفرة التابعة لإمارة أبوظبي. واللافت أن السلطة عمدت إلى إبراز هذا الموقع بشكل كبير، وجعلت منه متحفاً فتحته للزوار في نهاية 2010. في جزيرة أخرى تقع شمال جزيرة صير بني ياس، وهي جزيرة مروح، عُثر على أطلال دير من الطراز نفسه. وفي جزيرة المحرق التابعة للبحرين، عُثر على بقايا دير مماثل في قرية سماهيج. خارج المنطقة الجغرافية التي تحتلّها اليوم الإمارات، نقع على مواقع أثرية مسيحية أخرى في نواح متاخمة تتبع الكويت والسعودية وقطر.في العام 1989، كشفت بعثة فرنسية عن بقايا دير في وسط موقع القصور، في جزيرة فيلكا، على بعد عشرين كيلومتراً من سواحل مدينة الكويت، في الركن الشمالي الغربي من الخليج العربي. على إثر هذا الاكتشاف، عمدت بعثة بولونية تقودها عالمة الآثار ماغدالينا زوريك إلى التنقيب في نواحي هذا الموقع، وعثرت على بقايا كنيستين، إضافة إلى مصلّى يعود على الأرجح إلى دير اندثر. وفي 1993، كشفت بعثة فرنسية كويتية مشتركة عن أنقاض كنيسة تقع في جزيرة عكّاز المتاخمة لبرّ الكويت. في الساحل الجنوبي الشرقي لقطر، في موقع قصر البحيرات، بالقرب من مدينة الوكرة، تم الكشف عن بقايا هيكل كنيسة، وأظهرت الأبحاث ان هذه الكنيسة تعود إلى دير شُيّد بين مطلع القرن السابع وأواخر القرن الثامن، ثم اندثر تدريجياً. وفي موقع أم المراديم، وسط قطر، كشفت الحفريات العام 2013 عن صليب أثري يشهد للحضور المسيحي في هذه المنطقة. قبل هذه السلسلة من الاكتشافات، في شمال محافظة الجبيل، في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية، شمالي مدينة الدمام، على ساحل الخليج، كشفت حفرية "طوى الشلب" في العام 1986 عن دير صغير يضمّ باحة كبيرة وسلسلة من الصوامع الرهبانية. وفي مدينة ثاج الأثرية في المنطقة الشرقية للمملكة، تمّ الكشف عن بناء زُيّن مدخله بالصلبان، مما يوحي بأنه كنيسة. كذلك، عثر المنقّبون خلال حفريّاتهم على إناء مزين بالصلبان، مما يؤكد هوية هذا الموقع الذي يعود إلى مدينة كانت في الماضي أحد المراكز الحضاریة المهمة في الجزیرة العربیة، وقد ازدهرت في الألفیة الأولى قبل المیلاد، ويُجمع المتخصصّون على القول بأنّها أكبر موقع هلنستي معروف في المنطقة الشرقیة حتى يومنا هذا.على مسافة عشرة كيلومترات من هذه المدينة، في بلدة الحناة المطوّقة بالمدافن الأثرية، عُثر في نهاية سبعينات القرن الماضي على أكثر من عشرة شواهد قبور مزينة بالصلبان، غير أن البحث المتواصل في هذا الموقع لم يكشف إلى اليوم عن أي بناء مسيحي. وفي جزيرة أبو علي المتاخمة للجبيل، كُشف عن هيكل كنيسة اندثرت معالمها. في المقابل، في منطقة البري، جنوب غربي جبيل، في الجبل الغربي، عُثر على ثلاثة صلبان برونزية أثرية، على مقربة من موقع أثري يحوي أطلال مبنى يعود على الأرجح إلى دير اندثرت معالمه بشكل شبه كامل.مواقع نسطوريةفي حديثه، رأى رئيس دائرة السّياحة والآثار بأم القيوين، ماجد المعلا أن الدير المكتشف حديثاً في جزية السينية "يُعدّ دليلًا آخر على وجود الطّوائف المسيحيّة، الّتي عاشت جنبًا إلى جنب مع المجتمع الإسلامي بساحل الإمارات قديمًا". في الواقع، مثل سائر المواقع المسيحية المكتشفة في شرق الجزيرة العربية، يعود هذا الدير إلى طائفة واحدة هي الطائفة التي تنتمي إلى الكنيسة السريانية الشرقية التي عُرفت طويلاً باسم الكنيسة النسطورية، نسبة إلى نسطور، بطريرك إنطاكيا الذي دان "مجمع أفسس" تعاليمه في 431. ومن الكنيسة النسطورية، انشق فريق اتحّد بروما في منتصف القرن الخامس عشر، وعُرف باسم "الكلدان". فيما عُرف أتباع الكنيسة الشرقية الذي رفضوا هذا الاتحاد بـ"الأشوريين".نشأت الكنيسة الشرقية بالقرب سليق وطيسفون، اي "المدائن الملكية" التي جعل منها الساسانيون عاصمة لهم، وعلى بعد 35 كيلومتراً من هذه المدائن، أسسّ الخليفة المنصور مدينة بغداد في 762. قبل دخول الإسلام، أنشأ النساطرة "أسقفية العرب" في الحيرة، و"أسقفية التغلبيين" في عاقولا، أي في الكوفة في التوراة". امتدّ هذا الحضور ودخل الأراضي المطلّة على الخليج حيث أنشئت أسقفية "بيت قطراي"، أي بيت القطريين، وأسقفية "بيت مازون"، ومازون هو الاسم القديم لعُمان. شملت أسقفية بيت القطريين مناطق عديدة، وضمت بحسب القاموس الجغرافي المعاصر قطر، والبحرين، وجزيرة تاروت والأحساء في المملكة السعودية. في المقابل، شملت أسقفية بيت مازون عُمان ومناطق واسعة من الإمارات العربية المتّحدة. ومن المفارقات، أن المدوّنات السريانية تشهد لحضور المسيحية في هذه المناطق حتى نهاية القرن السابع فحسب، غير أن الشواهد الأثرية المكتشفة في السنوات الأخيرة تشهد لامتداد هذا الحضور إلى القرن التاسع، أي إلى العهد العباسي الأول، وتدحض بشكل قاطع المقولة الشائعة التي تزعم بأنه "يجبُ ألَّا يكون في جزيرة العرب دينان".