في ديوانه الرابع، «بوينغ سي 17 ليست شجرة» الصادر حديثًا عن دار المثقف للنشر (القاهرة)، يسحب الشاعر المصري عبد الرحمن مقلد، الزمن ويوقفه على 3 لقطات فوتوغرافية من أفغانستان، ضُحى يوم استيلاء حركة طالبان على السلطة بعد الانسحاب الأميركي، الذي واكب حركة هروب كبيرة من البلاد، ليتوقف الشاعر عند لقطة سقوط 3 مواطنين أفغان من الطائرة الأميركية العملاقة وهي في السماء، وسجلتها كاميرات الفيديو، لتكون شجرة الصنوبر الأفغانية الشهيرة في مواجهة طائرة الشحن الأميركية العملاقة «بوينغ سي 17 غلوب ماستر». فالشجرة «أم»، والطائرة «زوجة أب». هكذا الانحياز إلى الطبيعي والبشري، إلى الطمأنينة والسكينة، والتضامن والرحمة والمودة، لا القهر والظلم والقسوة والمعدن الأملس الصلد الذي يحس بنبض القلوب.
نحن ثلاثةُ أفغانٍ
خانَهم الحدسُ
فحسِبوا
طائرةَ «بوينغ» الأميركيةَ
تملكُ روحَ صَنَوْبَرةٍ
فتسلقَ كلٌّ منا
واحتضنَ الشجرةَ في داخلِه
وتفيأ ظلَّ جناحٍ
لكنَّ السطحَ الأملسَ لمحرِكها
ليس لحاءً يقرأُ نبضَ قلوبٍ خائفةٍ
ليميلَ الجذعُ الخشنُ
فروعًا نمسكُ فيها
الشجرةُ تملكُ قلبًا
أما الطائرةُ
جهازُ تحكمِها لم يدركْنَايضم ديوان عبد الرحمن مقلد، 19 قصيدة، من بينها: «تلك اليد»، و«أنت السيد في هذا الحلم» و«ذئبة وول استريت» و«بوينغ سي 17 غلوب ماستر ليست شجرة» و«على إيقاع بوهيميا شارل أزنافور» و«تقرير من الكهف». رسم الغلاف للفنان الأردني عماد حجاج، وتصميم الغلاف للشاعر محمد سادات التوني.عبد الرحمن مقلد شاعر وصحافي مصري، مواليد 1986، صدرت له سابقًا 3 دواوين شعرية هي: «نشيد للحفاظ على البطء» و«مساكين يعملون في البحر» و«عواء مصحح اللغة»، وفاز بجائزة الدولة المصرية التشجيعية في الشعر 2018.في قصيدة أخرى، يأخذ مقلد موقفًا من الرأسمالية العالمية مُمَثلًا في رمزه «صندوق النقد الدولي»، ليقف في هذه المرة منحازًا إلى الجمال الأنثوي لكريستين لاغارد، الرئيسة السابقة للصندوق، التي اشتهرت بقوتها، وصرامتها وحدتها، في التعامل مع ماليات دول العالم الثالث، التي تلجأ للصندوق، للحصول على قروض لإنقاذ اقتصاداتها، ويكون المقابل المزيد من الضغوط على البشر. في قصيدته «ذئبة وول استريت»، يرى عبد الرحمن مقلد لاغارد المرأة صاحبة «الجسدِ البوهيمي البريقِ»، لا هذه المديرة نذيرة الشؤم و«الموتِ المدججِّ في حماسِك/ غير دائسةٍ على أعناقِ مليارين من أبناءِ هذا الكونِ». يدعو الشاعر، كريستين لاغارد، إلى هدنة تتوقف فيها على الضرب بمخلبها، لتحرر الذئب المقيد في نسجيها:تُجمعنا هنالك هدنةٌ
لأحرر الذئبَ المقيدَ في نسيجك
أدركُ الغجريّ خلف التل
إني أحبك غير واعدة بشيء
غير ناصبةٍ فخاخَك
غير ضاربةٍ بمخلبك القوي
ولا أحبك حينما تتحدثين عن «النظام العالمي»
أحب فوضاك الخبيئة
أن أجيئك مثل لص زاحفٍ أو مستريبًا
خاطفًا ثمراتِ صدرك، نائلًا متعي الصغيرة
أن أشمَ السحرَ في جسدٍ بوهِيمي مصفى..
لا أراك وأنت تقترحين
نصلَك في صدور المتعبين
وإنما أرتاحُ في عينيك
إن أغفلتِ عن هذا الضرامِبالتأكيد الشاعر وحده هو الذي سينتبه إلى الأقراط الأنيقة التي تحرص مديرة الصندوق على وضعها في أذنيها، وبالتأكيد هو الذي سينحاز إلى شامتها، وحقل النمش، وتصفيفة شعرها. ففي الوقت الذي سينشغل الطفيليون بحديثها عن المال، سيكون للشاعر عمل آخر وهو تأمل هذه الجمال البوهيمي ويدعوه للتحرر بعيدًا من آهات البشر. الشاعر مشغول دائمًا بما هو أبقى وأجمل، مشغول بمهمة سامية متسائلًا: أليس من الأفضل لك أيتها الجميلة أن تهيمي في البرية بدلًا من قناع البنكنوت القاسي الذي تضعينه ونراك فيه غولًا رهيبًا قاسيًا... وفي حديث لا يخلو من السخرية، يدعوها للسهو والفوضى، ولأن تخلع عيون ميدوزا التي تحول البشر هنا إلى آلات وليس حجراً:إذا سهوتِ
ولم تكيلي الوعدَ
ثم الوعدَ للجوعى وللأمم الفقيرة
إن خلعتِ عيون ميدوزا
وإن أشعلتِ عينيك اللتين تسافران إلى بعيدْ
أحبُ: كيف تدججين مفاتنًا فتاكةً بي
ليس يدركها الطفيليون
تغشاهم سحابةُ «نقدِك الدولي»
لو تتحدثين عن القروضِ
وتذهبين إلى حسابِ الربحِ
لم ينتبه أحدٌ لأقْرَاط الجميلةِ
ليس يشغلُ ذلك الجسدُ الخميريُّ البغيُّ
البالَ
لكني أدورُ وراء هذا الوجه
لو يبدو على التلفازِ
أحسبُ أنه وعدُ القيامةِ
ذلك النمشُ الذي يبدو كسربٍ تائهٍ
يرعى الذي ما بين نهدكِ من زغبْ
سامحيني
إن قربتُ لكي أذوقَك
أحتفي بمواطنِ الشاماتِ
أشغلُ رقصَك الغجريَّ
رقصةَ ذلك الشلالِ من عسلٍ مصفى
أنضجَته شموسُ أفريقيا.
واعذري
لغتي التي ترعى هنا
وتدورُ في دوامةِ الفوضى
وتمشي في المدائنِ
ليس تعبأُ بالنظامِ العالمي
ليس تجرؤ أن تحطَ إلى جوارك..وفيما تتصدر قصيدة النثر المشهد، عربيًا، يصر عبد الرحمن مقلد كسابق أعماله، على كتابة قصيدة التفعيلة، وهو حسب ما يقول في حوار سابق مع أسبوعية «أخبار الأدب» له «اختيار جمالي»، حيث يقول: «أرى أن الموسيقى العروضية تسكنني، وأرى أنني أفهم وأتعامل مع الأوزان الخليلية تعاملاً متطوراً وحديثاً، بوصف هذه الأوزان تعطي قيمة مضافة للقصيدة، (وهذه أمر لمسه العديد من الدارسين للديوان)، بمعنى أن من يقرأ قصائدي من الصعب عليه أن يعرف أنها موزونة، وكثيراً ما أصنَّف كشاعر يكتب قصيدة النثر، لكن من المؤكد أن قارئي سيجد أثراً لموسيقى في الخلفية، هذه الموسيقى لا ترتفع ولا تغطي المعنى، ولا تكون هي المحرك، لكنها تتوالف مع الإيقاع الذي ينشأ من اللغة، من تناسق الكلمات والأحرف وتجاذبها الصوتي التنغيمي وتباعدها، وينشأ أيضاً من التقاطعات الصرفية العروضية (تقاطع الوزن الصرفي مع التفعيلات العروضية)، ومن حركات الضبط (الضمة والكسرة والفتحة) والصرف (التنوين) الذي يعطي الحروف العربية مزيداً من الحرية ومزيداً من الموسيقى.هذه كلها إمكانات يرى عبد الرحمن مقلد «أنها تضيف للقصيدة، وتمنحها حيوية وخصوصية، وقدرة على اجتذاب الآذان، شرط ألا تتحول الموسيقى لوباء على القصيدة، تكون هي من يحركها، ولا يصل المتلقي سوى نمط موسيقي خالٍ معاد مكرور. كما أن الالتزام بالموسيقى بهذا الشكل الذي يتعرض فيه الوزن للإنهاك الضروري، يمنح قصيدتي تميزاً ويجعلها مختلفة، وسط الكثير من النصوص المائعة فاقدة الصوت والرائحة، التي لا يقتنع بها وجداني، ولا عقلي ولا أذُني».