صدرت جريدة "الحرية" في بيروت عام 1960، كصحيفة ناطقة باسم "حركة القوميين العرب"، وكانت تصل إلى منزلنا صباح كل اثنين ليتصفحها كل الاخوة، وكنت انذاك في الصفوف الابتدائية أقرأ العناوين وأعاين الصور، ومع الوقت صرتُ اقرأ ما تيسّر من المقالات القصيرة. كانت "الحرية" جريدة يشرف عليها ويحررها شباب، رئيس التحرير محسن ابراهيم كان في الخامسة والعشرين، واحد كتابها البارزين غسان كنفاني في الرابعة والعشرين. وكان أخي معن أحد كادرات الحركة، يراسل "الحرية" من القاهرة حيث يتابع دراسته في جامعتها.
بالإضافة الى قراءة رسائل معن القاهرية، كنتُ أقرأ الزاوية الساخرة في الصفحة الأخيرة التي يكتبها غسان كنفاني ويوقعها بـ(غين كاف).
كان غسان، الذي نشأ في دمشق والتحق بوالده في الكويت، قد انتقل الى بيروت التي افسحت له المجال لإبراز مواهبه، فنشر عام 1961 أول مجموعة قصصية بعنوان "موت سرير رقم ١٢"، ثمّ توالت أعماله بما في ذلك "رجال في الشمس"... وانتقل بعدها إلى جريدة "المحرر" حيث أصدر ملحقاً اسبوعياً باسم فلسطين، وبعدها إلى جريدة "الانوار" حيث اصدر بعد عام 1967 ملحقاً ثقافياً تعرفنا من خلاله الى شعراء المقاومة، قبل ان يستقر في جريدة "الهدف" الناطقة باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
التقيتُ غسان كنفاني لأول مرة في طرابلس حين أتى لإلقاء محاضرة في "النادي الثقافي العربي"، ثم التقيته مرة ثانية في جريدة "المحرر" وكنتُ بصحبة أخي معن. والمؤسف ان اللقاء الاخير كان حين سرنا في جنازته لساعات في شوارع بيروت.
في حياته القصيرة أنجز مشروعاً ثقافياً وأدبياً. كان يجسّد شخصية المثقف المناضل، وميزته انه لم يضح بالقضية في سبيل الأدب ولا تخلى عن الادب في سبيل فلسطين. وتمكن من جعل فلسطين والأدب مشروعًا واحداً...
(*) كلمة ألقيت في قاعة المؤتمرات، الرابطة الثقافية في طرابلس، في الذكرى الـ 50 عاماً على استشهاد الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني مع ابنة اخته لميس، بدعوة من مؤسسة كنفاني ونادي قاف للكتاب، وشارك فيها د خالد زيادة، د غادة صبيح، المخرج جان رطل والروائي إبراهيم نصر الله.