إعتاد الإعلام اللبناني التعامل مع قضايا الأشخاص ذوي الإعاقة وفق قوالب نمطية. فإما أن يتم تصويرهم كـ"شخصيات خارقة"، أو أفراد ضعفاء يستدعون الشفقة، فيما يغيب الخطاب الحقوقي وسياسات الدمج عن الرؤية العامة للمؤسسات.
فطنت جهات حقوقية لخطورة الأمر، وأهمية تأسيس "إعلام دامج" في لبنان. وبدأت مسيرة الألف ميل لمواجهة خطاب إعلامي سائد تتردد أصداؤه في البرامج الإجتماعية التي تُغلّب اللغة العاطفية، والمهرجانات التكريمية التي تعتمد المبالغة، والنشرات الإخبارية "غير المكيّفة"، أو حتى الأفلام السينمائية التي تعطيهم "بُعداً ميتافيزيقياً".
في مقابل ما هو سائد، تبرز المساعي لوضع مدونة "الإعلام الدامج". وهي مدونة، عمل عليها تحالف من المنظمات الحقوقية المتخصصة، وتسعى إلى تكريس مجموعة من المبادىء كـ"إمتناع وسائل الإعلام عن نشر التصريحات التي تتضمن إستخداماً مسيئاً لمصطلحات الإعاقة"، وحرص وسائل الإعلام على إشراك الأشخاص ذوي الإعاقة في مناقشة القضايا العامة وقضاياهم الخاصة، وصولاً إلى "إستخدام مصطلحات تعبِّر عنهم كما يودّون وليس من خلال الآخرين"، فضلاً عن ترسيخ المقاربة الحقوقية التي تنص على "عدم التمييز على أي أسس"، وإحترام الإعاقة وإعتبارها جزءاً من التنوع الإنساني، والمساواة بين الجنسين حتى بين شرائح الأشخاص ذوي الإعاقة، وإمكانية الوصول إلى المعلومات ووضوحها وما يتضمنه المبدأ الراهن من "تكييف" المنتج الإعلامي وجعله متاحاً للجميع بلا حواجز.
نحو إعلام دامج
أخيراً، خَضَعَ عدد كبير من الصحافيين للتدريب على إعتماد الخطاب الحقوقي الدامج، وقام بتنظيم تلك الورش في بيروت، مركز الدراسات اللبنانية، Disability Hub، بالتعاون مع الجامعة اللبنانية الأميركية. وهدف التدريب إلى دعوة الإعلامين وقادة الرأي العام إلى مناصرة حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة من جهة، لكنه أيضاً إتجه نحو ضرورة تغيير طريقة التعاطي معهم أمام الشاشة وخلفها. فعندما يكونون ضيوفاً، يُفترض إحترام خصوصيتهم، ومنحهم الفرصة للتعبير عن إهتماماتهم وعدم إظهارهم في مظهر الضعف والشفقة، أو أنهم خارقون.
في المقابل، يجب إعتماد السبل الممكنة من أجل "تكييف المنتج الإعلامي" من أجل إيصال الرسالة إلى مختلف الشرائح التي تشكل طيف المجتمع. وتشكل نشرة الأخبار الرئيسية مدخلاً مقبولاً من خلال إعتماد مترجماً إلى لغة الإشارة، وإضافة كلام الصورة أسفل الشاشة، وإستخدام اللغة المبسطة.
لا يطالب الأشخاص ذوو الإعاقة بالكثير، بل يريدون معرفة ما يدور في البلد، ومتابعة تحديثات التوعية الصحية في ظل إنتشار الأوبئة، إضافة إلى التسلية والترفيه ككل متابعي الإعلام. إتجه التدريب إلى تصحيح مجموعة من المفاهيم الإجتماعية الخاطئة حول الأشخاص ذوي الإعاقة، فهم يتمتعون بمؤهلات تجعلهم قادرين على تحقيق إستقلاليتهم. كما ركزت على العوائق الخارجية أمام إندماجهم في المجتمع، سواء كانت معوقات هندسية، ثقافية، فكرية أو سياسية. كما ظهرت أهمية أن يتعامل معهم الإعلام كـ"أفراد"، يمتلكون شخصياتهم الخاصة، ولديهم إهتمامات مستقلة عن إرادة المحيط. ناهيك عن إبراز الإستجابة لإحتياجات "الجمهور المتنوِع". ولا ننسى الدفع نحو تكريس مظلة تشريعية حقوقية، بما يتوافق مع الإتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة الصادرة في 2006، والتي صادق عليها البرلمان اللبناني في 12 نيسان 2022، أي بعد إنتظار دام 15 عاماً.
نحن جزء من المجتمع
يتمسك المدافعون عن قضية الأشخاص ذوي الإعاقة بالبُعد المطلبي العام. ويؤكد د.إبراهيم عبد الله (أكاديمي لديه إعاقة بصرية) أنه "فور إتمامه لدراسته في الولايات المتحدة، عاد إلى لبنان وبدأ ينشط مع الجمعيات الحقوقية المتخصصة منذ 26 عاماً".
يشعر عبد الله ببعض التغيير في تعاطي وسائل الإعلام مع شريحة الأشخاص ذوي الإعاقة، مميزاً بين "التهميش" و"نظام التعامل المغلوط". يوضح عبد الله أنه "في الفترة السابقة على الحرب الأهلية، وخلالها، كان هناك تهميش تام للإعاقة بالرغم من التزايد الكبير في أفراد الشريحة نتيجة الحروب، لكن لاحقاً إضطر المجتمع اللبناني ووسائل الإعلام للإعتراف بوجود الشريحة، فيما إستمرت طريقة التعامل المغلوطة".
تبرز طريقة التعاطي المغلوطة من خلال إنتشار المقاربة الخيرية الرعائية، وأنهم أفراد يحتاجون إلى العطف. وينطلق من مثال مهرجان تكريم الأشخاص ذوي الإعاقة، وإعتماد أسلوب "الشفقة"، معلناً رفض طرق التعامل التي لا تعتمد النظرة الحقوقية والإجتماعية.
يطمح عبد الله (الناشط في وضع الإستراتيجية الوطنية للإعاقة في لبنان) إلى دمج الإعاقة في مختلف البرامج الإعلامية، لأن "من حقنا وحق كل مواطن الوصول إلى المعلومات، والإستمتاع بالبرامج التلفزيونية، ومن حق كل مواطن وجود تشريعات تحميه"، متسائلاً: "هل يجوز في أي شريعة إنسانية أن تكون هناك أحداث أمنية خطيرة في البلاد وفئة كبيرة من الناس لا تعلم بما يجري وتحديداً الأشخاص ممن لديهم إعاقة سمعية؟". كما يتطرق عبد الله إلى مكانة اللغة في مسيرة الدمج. ويبرز السعي إلى وضع دليل بالمصطلحات المسيئة والجارحة التي يجب تغييرها، وإعطاء البدائل عنها. ويضيف عبد الله: "هناك جهات كثيرة لا تعرف البديل، ولا يمكن لوم المراسل والصحافي، ومن هنا جاءت القناعة بوضع لائحة مصطلحات غير جارحة".
ويضع عبد الله في خانة المصطلحات "المسيئة"، تلك التي تبالغ في وصف قدرات الأشخاص الإعاقة.، من قبيل "أصحاب الإرادة الصلبة"، و"أصحاب الهمم" التي تستعمل للتبجيل في حين أنها ليست واقعية "لأننا لسنا جميعاً أصحاب إرادة صلبة، أو من ذوي الهمم".
القرار قرارنا
تشكل التجربة الإعلامية لفادي الحلبي (مقدم برامج ومعالج نفسي) نموذجاً للإعلام الدامج في لبنان، سواء في إذاعة "صوت لبنان" أو "أخبار المستقبل". ويعود إلى إنطلاقته الإعلامية في "نهار الشباب" مع الصحافي والنائب الراحل جبران تويني. يقول: "بعد الحرب كنا نحلم بلبنان آخر، وقررت أنني لا أريد حصر رؤيتي للعالم في شرفات الأشرفية، وإنما المشاركة في جهد جماعي متنوع ويؤمن بالوعي المواطني، وكانت الإنطلاقة العام 1995".
يشير فادي الحلبي إلى أن "الكرسي (المدولب) لم يكن عائقاً في التعاطي مع شبيبة لبنان ولو للحظة واحدة، وكان التركيز على الهدف المشترك وصناعة لبنان الجديد". ويتطرق إلى تجربة برنامج "تواصل" عبر شاشة "أخبار المستقبل"، ويقول: "كان عندي حلم تقديم برنامج يعكس قيماً مجتمعية جامعة، وقد إستجابت إدارة المحطة، وصممت إستديو مكيفاً لقيامي بتقديم البرنامج". ويضيف: "كان هناك إتفاق مع منتج البرنامج بعدم تخصيص حلقة للإعاقة قبل مرور سنة على إطلاقه، فإذا كان المقدّم لديه إعاقة حركية، فهذا لا يعني أن تنحصر إهتماماته في هذا الملف"، لافتاً إلى أن "الهدف كان دفع الناس إلى تقييم تجربة فادي كفرد، وليس كشخص من ذوي الإعاقة".
ويؤكد فادي الحلبي أنه خلال تجربته الإعلامية، لم يلتقِ إلا بشخص واحد قال له أن "لديه مشكلة مع برنامج يقدمه شخص على الكرسي"، فيما كانت أكثرية الآراء مرحبة ومتقبلة. ويعتقد أننا في مرحلة "تشكيل الوعي"، لكن "لا توجد إستراتيجية وطنية دامجة، وما زلنا في مرحلة مبادرات يقوم بها أشخاص لإحداث تغيير نوعي"، ويأمل في "اكتساب الإعلاميين للمفاهيم الصحيحة، وهو المدخل لممارسة حقوقية بعيداً من الصور النمطية السائدة في المجتمع"، وهنا، "يبرز واجب المنظمات الحقوقية، وكليات الإعلام في إدخال مقررات الإعلام الدامج لمقاربة القضية كما يجب، بلغتها ومفاهيمها الخاصة". ويخلص الحلبي إلى أن التغيير يأتي إما من رأس الهرم إلى الأسفل، وهو أمر مُكلف ويحتاج وقتاً ووضع سياسات وإستراتيجيات، وإما يأتي من القاعدة، لافتاً الى أن "إعتناق مجموعة من الإعلاميين الخطاب الحقوقي وإستخدامه، سيساهم في نشره من طريق العدوى الإيجابية".