في كل عام، يصيب الفيروس "المخلوي التنفسي"، الملايين حول العالم، مسبباً كوارث حصيلتها عشرات الآلاف من الوفيات، ناهيكَ عن الأعداد المهولة التي تحتاج للاستشفاء. لكن هذه المأساة على وشك أن تنتهي، إذ تحمل نهاية هذا العام بعض الأخبار الجيدة، وقد نشهد آخر المراحل التي يفتك فيها هذا الفيروس بالبشر، مع إعلان شركة "فايزر Pfizer" الأميركية، نجاح تجاربها على لقاح للفيروس بعد عقودٍ من الجهود الفاشلة لإنتاجه.لقاح يغير قواعد اللعبةالفيروس "المخلوي التنفسي" هو عدوى شائعة تصيب الجهاز التنفسي، وعادةً ما يسبب أعراضاً خفيفة تشبه أعراض نزلات البرد لدى البالغين والأطفال والكبار الأصحاء. بينما تكمن خطورته بأنه قد يسبب التهاباتٍ رئوية خطيرة خصوصاً لدى الرضّع، وكبار السن، والأفراد الذين يعانون من مشكلاتٍ طبية خطيرة. من هنا تأتي أهمية ما أعلنته "فايزر"، إذ أن لقاحها الذي يتم إعطاؤه للحوامل، أثبت في تجارب المرحلة الثالثة أنه يحمي بنسبة 69 في المئة من حالات المرض الشديدة بين الأطفال الرضّع بعمر ستة أشهر أو أقل. أما لقاحات كبار السن في تجارب المرحلة نفسها، فقد أعطت حماية بين 80 و86 في المئة.
يتوقع خبراء الشركة الأميركية أن تكون هذه المنتجات متاحة على نطاقٍ واسع للاستخدام في غضون عام إلى عامين، إذا سارت عمليات الموافقة بسلاسة في إدارة الغذاء والدواء الأميركية. هذا يعني أنه، باستثناء أي مفاجآت، يمكن للأطفال والبالغين في الولايات المتحدة الحصول على الحماية من هذا الفيروس في الخريف المقبل.
ويُعدّ هذا الإعلان بمثابة إنجازٍ طبي كبير، تشرحه إيمي إدواردز، اختصاصية أمراض الأطفال المعدية في مستشفى "رينبو للأطفال والرضّع Rainbow Babies and Children" في الولايات المتحدة، بالقول: "إذا تمكنا من إبقاء الأطفال خارج وحدة العناية المركزة ومنعهم من الموت، فقد نكون حققنا نصراً كبيراً. هذا لن يكون مجرد انتصار للأطفال، فلقد تسبب الفيروس بأعدادٍ ضخمة من الوفيات عند البالغين، وما يحدث اليوم يمكن أن يغير قواعد اللعبة".
ضحايا بالالاف
وعند الاطلاع على أعداد الوفيات والمرضى الذي يدخلون المستشفيات بسبب هذا الفيروس سنوياً، يدرك المرء مدى أهمية هذا الإعلان الذي يحتفي به المجتمع الطبي. ففي الولايات المتحدة، تؤدي العدوى إلى حوالى 58 ألف حالة دخول إلى المستشفى بين الأطفال، ما يجعلها السبب الرئيسي لدخول الأطفال إلى المستشفيات في البلاد. وعلى الرغم من أنها عدوى تحمل المخاطر بشكلٍ خاص للأطفال المولودين قبل الأوان، ولأولئك الذين يعانون من مشاكل في الرئة أو تشوهات في القلب، فإن حوالى 40 في المئة من الأطفال الأميركيين الذين ماتوا بسبب الفيروس "المخلوي التنفسي" خلال العقود القليلة الماضية كانوا يتمتعون بصحةٍ جيدة.
ولهذا الفيروس دورٌ أساسي بالالتهاب الرئوي لدى البالغين، ما يتسبب في دخول ما يصل إلى 120 ألف شخص سنوياً من الفئة العمرية فوق 65 عاماً إلى المستشفيات في الولايات المتحدة وحدها. وفي حديثٍ لمؤتمر جمعية "الأمراض المعدية الأميركية" أواخر الشهر الماضي، قالت هيلين تشو، الطبيبة والباحثة في أمراض الجهاز التنفسي المستجدة، أن الفيروس أودى بحياة 12700 من كبار السن العام الماضي، وهو رقمٌ غير ببعيد من ضحايا الأنفلونزا المقدّر عددهم بـ21 ألفاً.
ومهما كانت أضرار الفيروس في الولايات المتحدة، فهي أسوأ على الصعيد العالمي. حيث يتسبب الفيروس كل عام في وفاة ما يُقدّر بنحو 120 ألف طفل وما يصل إلى 55 ألف حالة وفاة بين البالغين، يتركز معظمها بين الأشخاص الذين يعيشون في فقرٍ مدقع ويتنفسون هواءً ملوثاً.
نجاح بعد فشلٍ طويل
وكما سبق وأشرنا في البداية، يأتي هذا الإنجاز بعد سنواتٍ طويلة من الجهود الفاشلة لإنتاج لقاحٍ فعال، بسبب صعوبة التعامل مع هذا الفيروس. ففي المرة الأولى التي حاول فيها العلماء تطوير لقاح في ستينيات القرن الماضي، فشلوا فشلاً ذريعاً، ما أدى في الواقع إلى إصابات أكثر شدة بالفيروس "المخلوي التنفسي" لدى الأطفال الذين تلقوه. وعلى الرغم من أن هذه المأساة أبطأت تطوير اللقاح إلى حدٍ ما، إلا أنها لم تثنِ الباحثين تماماً. بَيد أنهم خلال العقود القليلة التالية، لم يحرزوا تقدماً يُذكر، ويرجع ذلك إلى حدٍ كبير إلى بعض السمات الفريدة لبروتينات سطح الفيروس.
هذه البروتينات هي مغيرات الشكل، وتأخذ أشكالاً مختلفة، اعتماداً على ما إذا كانت قد غزت أو اندمجت في خلية بشرية. وهذا يعني أنه لفترة طويلة، كان الخيار الوحيد للباحثين هو استخدام أشكال البروتين بعد الاندماج كأهداف للقاحات جديدة. نتيجةً لذلك، لم تتمكن اللقاحات لسنوات من التعرف على الجزيئات الفيروسية إلا بعد غزوها للخلايا. ولصنع لقاحٍ أفضل، احتاج العلماء حقاً إلى صورة واضحة لما كانت تبدو عليه تلك البروتينات السطحية قبل غزو الخلية.
وبعد ذلك، وتحديداً في عام 2013، اكتشف عالم الأحياء الهيكلية جيسون ماكليلان، الذي يعمل حالياً في جامعة "تكساس"، كيفية الحصول على هذه الصورة. ما مكّن بعدها الباحثين في "فايزر" من بدء العمل على لقاحات تستهدف مرحلة مبكرة من الإصابة بالفيروس.
تطعيم الحوامل
من بين الخيارات العديدة التي يجري تطويرها حالياً لحماية الأطفال من عدوى الفيروس "المخلوي التنفسي" الحادة، إعطاء النساء الحوامل اللقاح قبل ولادتهن. فعندما يتم تحصين سيدةٍ ما ضد الفيروس "المخلوي التنفسي" أثناء الحمل، فإن الأجسام المضادة التي ينتجها اللقاح استجابةً لذلك تنتقل بكمياتٍ كبيرة إلى رضيعها، ما يوفر جداراً قوياً من الحماية خلال الأشهر القليلة الأولى من حياة الرضيع. وتُستخدم هذه الاستراتيجية الطبية التي تعتمد على انتقال الأجسام المضادة بشكلٍ طبيعي من الحوامل إلى الأجنة أثناء وجودهم في الرحم، لحماية الأطفال من الدفتيريا والتيتانوس والسعال الديكي، والإنفلونزا، وحتى فيروس كورونا المستجد.
أما بحالة عدم تطعيم النساء الحوامل مباشرةً، فستظل هناك خيارات لحماية أطفالهن. وبهذه الحالة، ستكون الأجسام المضادة أحادية النسيلة (أي بروتينات من صنع الإنسان تعمل مثل الأجسام المضادة في أجهزتنا المناعية) التي تُعطى للأطفال الرضّع مباشرةً بعد الولادة، مطروحةً على الطاولة كخيار، ما يمنع ما بين 70 و75 بالمئة من الأعراض الشديدة. وبما أن الحماية التي يحصل عليها الأطفال من تطعيم الأم أو الأجسام المضادة أحادية النسيلة تدوم أقل من عام، في حين يحتاج بعض الأطفال، مثل أولئك الذين يعانون من حالاتٍ طبية صعبة كتشوهات القلب إلى حماية تدوم طويلاً.. بدأت شركة "فايزر" باختبارات أولية تهدف لإعطاء اللقاح مباشرةً إلى الأطفال الرضّع، في جهودٍ من المتوقع أن تمتد لعدة سنوات.