صدر مؤخراً كتاب "الندم على الأمومة: عشر نساءٍ يروين قصصهنّ"، للكاتبة الفرنسية ستيفاني توماس عن دار هاشيت أنطوان/نوفل بترجمته من الفرنسية للعربية (العنوان الفرنسي: «Le Mal des Mères» J C Lattès, 2021). بهذا الكتاب عن الأمومة، تفتتح الدار سلسلة "إشراقات"، التي أرادتها، كما تقول في بيان، نافذة مشرّعة على مواضيع مختلفة لتعميق معرفة وفهم الذات والآخر، وبلوغ بعض التوازن في عالمٍ مفرط الحركة. هنا فصل منه...لكي يصبح الطفل فردًا، يحتاج إلى أكثر من الرعاية الحيوية المتعلقة بتطوّره الجسدي. يجب عليه أيضًا أن يدخل عالم اللغة وأن يُمنح مكانًا خاصًّا به في مجموعة أو عائلة كشخص متميّز ومرغوب فيه. افتقرت لونا إلى هذا بشدّة ووجدت نفسها عاجزة تمامًا عندما أنجبت طفلها.إنّ منح الحياة هو أهمّ شيء بالنسبة إلى لونا. وكانت لديها رغبة قويّة في الإنجاب. «عندما كنت حاملًا، كنت في أفضل حال نفسية وجسدية. وكانت ولادتي يسيرة». كانا متحابَّين هي وجيل. التقيا في حفلة، كانت هي في الثالثة والعشرين من عمرها، وقد أخرجها من شرنقة أسرتها المطمئنة. أنهت دراستها في مجال الإعلان، وسافرت إلى الولايات المتّحدة وآسيا، ووجدت وظيفة جيّدة في إحدى الوكالات وكانت مغرمة به. «سمحت لنفسي بأن أنجرف برغبتي. في تلك اللحظة من حياتي، أردت أكثر من أيّ شيء في العالم أن أهب الحياة!».تفصل لونا تمامًا الرغبة في إنجاب الطفل وفي منح الحياة عن الرغبة في أن تكون أمًّا والالتزام الذي ينطوي عليه ذلك. وتعترف: «لم أكن مستعدّة لأن أكون أمًّا».عندما كانت تحمل طفلها بسلام، بدأ جيل يشعر بالغيرة. لم يكن مساندًا لها إطلاقًا، واستمرّ في القول لها إنّها سمينة وبشعة، وإنّ الرجال ينظرون إليها بشهوة وإنّها تفعل ذلك عن قصد. كان مستبدًّا، ولاذعًا. لكنّ لونا لم تعتبر الأمر خطرًا. وتحمّلته إذ كانت تحمل الحياة ولم تعتبر أنّ هناك ما هو أغلى في نظرها.لماذا اعتبرت أنّ منح الحياة أمر «ثمين» إلى هذا الحدّ؟ يبدو أنّها تربطه بقصّتها...لطالما شعرت لونا بأنّ والدتها تعتبرها «شيئًا تملكه» وأنّها تتوقّع من ابنتها أن تبتسم وتعمل جيّدًا فقط. وقد تفوّقت لونا فعلًا في كلتا الفئتين.
«جاء هذا الحمل لاقتلاع كلّ شيء. أوهامي كلّها، وبنائي لهويّتي، والحلم الذي تشبّثت به. ما سأقوله مروّع، لكن ما إن خرجت طفلتي من رحمي، وجاءت إلى العالم، حتّى اكتشفت مشاعر جديدة تتعلّق بجسدي وبشيء لم أشعر به من قبل.ولادة ابنتي كانت ولادتي. لقد وُلدتُ عندما وُلِدَتْ. ظهرت مشاعرُ عميقة. وفهمت أنّني بدون والدَيّ، لا وجود لي. كنت فارغة. عندما أنجبتُ ابنتي، كان عليّ أن أملأ هذا الفراغَ وأن أبنيَ نفسي. أعتقد أنّ لديّ مشكلةَ هويّةٍ سببها التبنّي».وكما لو أنّها أرادت أن تطمئنني، أضافت: «ليس الأمر خطرًا. فالمرء يتدبّر أمره دائمًا في الحياة من عمر صفر إلى عمر سنة، افتقرت إلى تلك العلاقة العصبية الكيميائية، ونظرية التعلّق التي أحسَنَ وصفَها بوريس سيرولنيك، وتنمو في الوعي البشري، في وعي النفس والآخر. لم أكن سوى شيءٍ حيٍّ صغيرٍ في مهد. أطعموني وغيّروا حفاضاتي، لا أكثر. لم يأخذني أحدٌ في حضنه ولم يلاطفني أحد، إطلاقًا».لم تحظَ لونا بأيّ رعايةٍ محدّدة. لم يخاطبها أحدٌ قبل عيد ميلادها الأول كشخص فريدٍ ومتميّز. كان الاهتمام الذي حظيَت به ميكانيكيًا.«أدركتُ هذا كلّه مع طفلتي. وحاولت أن أعوّض معها عام الحياة الذي فاتني. لكن لم أشعر بأيّ عاطفة. لم أشعر بشيء. لم أتمكّن من إنشاء رابط. كنت هنا. وخُيّل إليّ أنّني أفعل ما يجب فعله. لست شغوفةً بالملامسة، ولست شرّيرة. لكنّني لا أميل إلى التقبيل. شعرتُ بأنّني أمٌّ صالحة. أحببت الاعتناء بها كثيرًا. لم تضايقني الوتيرة التي فرضَتْها عليّ هذه الطفلةُ الصغيرة. أطعمتها، وغيّرتُ حفاضاتها، وصنعتُ لها هريسة الفاكهة اللذيذة. كان عليّ أن أبقيها على قيد الحياة!لكن هذه الفتاة الصغيرة – وهي فتاة إضافة إلى كلّ شيء – ضربت على وتر حسّاس في داخلي، وحطّمت الهوية التي بنيتها لنفسي خلال أربعة وعشرين عامًا. لم أتوقّع انهيار هويّتي مع ولادة الطفلة»...«لطالما رغبت ابنتي في النوم في سريري بعد أن قرّرنا أنا ووالدها أن ننفصل. كانت في الثالثة أو الرابعة من العمر. من الواضح أنّها كانت بحاجة إلى اتّصال جسدي. لكنّ ذلك كان جحيمًا بالنسبة إليّ، إذ كنت متوترة. وكنت سريعة الغضب. أشعر بألم في جسدي، وبالاضطهاد، وبالألم في عضلاتي، وأعاني الأرق».ذات ليلة قالت في نفسها: «إمّا أن تعيش هي أو أنا. سأموت. لست بخير على الإطلاق. على هذا أن يتوقف». خجلت لونا ممّا شعرت به. وشعرت بالذعر حيال أفكارها.«إمّا أن أخنقها أو أذهب إلى طبيب نفسي».خنقها أو الذهاب إلى طبيب نفسي... اختارت الخيار الثاني وإنقاذ نفسها.«كلما كبرت ابنتي وبدأت تتكلم، علّمتها أن تحمي نفسها من أمثالي. كنت أعاني فترات طويلة من الغياب، أجلس في فقاعاتي وعندما كانت تلما في الرابعة من عمرها، قالت لي: ماما أنت تخيفينني. كنت هنا جسديًا، لكن عقلي كان في مكان آخر، بعيدًا عن المطبخ أو غرفة النوم أو مكان وجودنا. كان عقلي يجول ويغوص أحيانًا في أحلك غياهب أفكاري. وكأنّ شيئًا يسحبني، فأقع في حفرة. كنت أشعر بالفراغ، وهذا ما كانت ابنتي تراه. فراغي الداخلي».لا شيء يمكن أن يوقف أفكار لونا. كانت غائبة عن نفسها. لا تعني لها هويّتها كأمّ شيئًا. كان هناك فراغ من المعنى دفعها إلى مكان آخر مجهول.في هذه المرحلة من الحديث، فهمت أنّ الطفلة تُدعى تلما... حتى اختيار اسم ابنتها، ذهبت للبحث عنه في إحدى القصص الخيالية. إنّها إشارة إلى فيلم ريدلي سكوت وإلى تلك المرأة التي تعشق الحرّية.بالنسبة إلى لونا، بدا أنّ السنة الأولى من حياتها أحدثت فجوة في وجودها. فجوة لم يستطع أن يملأها حبّ عائلتها بالتبنّي. فجوة سقطت فيها عند ولادة ابنتها.عندما بلغت تلما السابعة من العمر، اشترت لونا دمية للتحدّث من البطن، حتى تتمكّن الأم وابنتها من الحديث، لم تتمكّنا من التواصل بطريقة أخرى. هذه الدمية جعلتهما تنفتحان. عندما تغضب تلما، تتحدّث من خلال الدمية التي تُدعى كوكو. وقد أصبحت صديقة العائلة. وبعد ذلك بأشهر قليلة وصل الكلب توتورو.«لفترة طويلة جدًا، منذ أن كانت ابنتي في سنّ الثانية حتى سنّ التاسعة، ضايقني الاتّصال الجسدي. كانت بشرتها تؤلمني. وكنت عاجزة عن لمسها، كان الألم جسديًا كما لو كانت ابنتي ترتدي بذلة مغطّاة بالأشواك.في البداية، استخدمت وسادة وضعتها بيننا عندما كان عليّ أن أعانقها كما تفعل جميع الأمّهات. ثم بفضل الكلب – الذي يمنحني شعورًا بالتعلّق والفرح – كنّا نتعانق عناقًا عائليًا. عندما تطلب منّي ابنتي أن أعانقها، أذهب للاختباء في الحمّام مع الكلب، وأشحن نفسي بطاقته ودفئه، وفقط بعد هذه الطقوس المفعمة بالحيوية، أستطيع أن أضمّ ابنتي إلى صدري».بفضل هذه الحيل المذهلة والمبتكرة، تمكّنت لونا من الخروج من هذه الفجوة الهائلة التي ابتلعتها. ما افتقرت إليه في طفولتها المبكرة تجسّد في أشياء خارجية، الكلب أو دمية التكلم من البطن.«ابنتي هي الشخص الوحيد على وجه الأرض الذي أكون معه على سجيّتي. فلا أحتاج إلى «إبهارها» لأشعر بالارتياح. أرغب في أن أحبّها. أغضب أحيانًا، وأحيانًا هي تغضب. وعندما نشعر بالحبّ الواحدة تجاه الأخرى، تصرّح أحدانا للأخرى بذلك. إنّها علاقة بلا خداع. لقد تعلمت ذلك بعلاقتي معها.عندما كانت تلما تعود إلى المنزل بعد أسبوع قضته عند والدها، كنت أشعر بالقلق المتزايد وأقول في نفسي:اللعنة! بهذه السرعة؟! لكن بمجرّد عودتها إلى المنزل، كنت أعيد كلّ شيء إلى مكانه لإيجاد وتيرتنا معًا ولنلعب معًا ونستمتع.كلما فتحت قلبي شعرت بالحب الذي تكنّه لي ابنتي، بدأت أشعر بحبّ أكبر تجاهها. ذات مساء، عندما كانت في الرابعة من عمرها، مدّت لي يدها الصغيرة فشعرت باضطراب كبير، لكنّ الرابط بدأ ينشأ منذ ذلك الحين باعتقادي».