لا أعني بالضرورة أن المدينة تسبب الهزيمة، لكن المدينة هي مسرح الهزيمة.لا يمكنك أن تُهزم من دون أن تظهر عليك ملامح الهزيمة... وإلا فأنت لست مهزومًا بعد. ولتظهر هزيمتك تحتاج مسرحًا. والمدينة هي مسرحك، وجمهورها متوافر دائمًا وإن لمُشاهدة سطحية.جمهور المدينة من البشر والمطارح يؤكد لك أنك خارج دائرته وهو خارج هزيمتك، فتتأكد هزيمتك وتتعمق، لأن الهزيمة لا يمكن أن تبقى على حالها أو تراوح مكانها. من خصائصها أن ثقلها يتعاظم لتأخذ مكانتها وتسحق مكانتك. المهزوم يتنفس هزيمته، وفقط عندما يختنق بها، يدرك هزيمته ويعيشها. المهزوم يمشي مشيةً مهزومة، وينظر نظرةً مهزومة، ويتكلم بثقل كلام مهزوم، ويسخر سخرية مهزومة ويسخط سخطًا مهزوماً.وإن صرتَ مهزومًا، تحتاج أن تمشي على الرصيف بنظرات غائبة. تحتاج رصيفاً. تحتاج مدينة. تحتاج أن تنتظر إشارة السير لتسمح لك، مع باقي المارة، بأن تمرّ. تحتاج إشارة سير. تحتاج مدينة. تحتاج أن تنظر إلى الجالسين في المقاهي، وعلى أرصفتها. وتأخذك الحيرة لأنهم لا يبدون مهزومين مثلك. تحتاج أن تجلس خلف إحدى طاولات هذه المقاهي، علك تصبح أقرب، فتفهم أسرع سر عدم هزيمتهم، على عكسك. تحتاج مقاهي، تحتاج مدينة.تحتاج أن تنظر إلى المتسولين، ولا تشعر بالشفقة عليهم لأنهم امتداد لهزيمتك. تحتاج متسولين، تحتاج مدينة. تحتاج أن تقود سيارتك وتبحث بين الذين يقودون سياراتهم أمامك وخلفك وعلى جانبيك، عن مهزومين مثلك. تحتاج ازدحاماً، تحتاج مدينة. تحتاج أن تنظر إلى الواجهات، وتقترب منها، وتضع يدك على زجاجها، وتشاهدها وهي تنزلق من دون أن تتمكن من رفعها. تحتاج محلات، تحتاج واجهات محلات، تحتاج معروضات في واجهات المحلات، تحتاج مدينة.كيف تكون مهزومًا إذا كانت هزيمتك لا تصفعك كل صباح ومساء، وكل غداء وعشاء، وكل استحمام؟ كيف تكون مهزومًا إذا لم تصطدم بهزيمتك في ممرات السوبرماكت ووجوه الباعة ونظرات شبيهك في المرآة؟ كيف تكون مهزومًا إذا لم يكن هناك مَن يلحظ هزيمتك هذه، ويتعرّف عليها في هيئتك ويهرب منها خوفًا من عَدواها؟ كيف تكون مهزومًا من دون أن يشاهد كل العالم هزيمتك؟لا يمكنك أن تُهزم من دون إعلان هزيمتك، وكيف تعلنها خارج المدينة؟خارج المدن، لا توجد هزيمة، لأن المصابين بها لا يعرفون صفاتها، فلا يدركون وقوعها، ولا موعدها ولا مدّتها. حتى لو حاولتَ عيش الهزيمة خارج المدن، لن تستطيع، لن يلحظها أحد، لن تميّزها أنت، وستُحرم من تمييز هزيمتك ولو كانت نكراء. الهزيمة تولد في المدن، وتعيش وتمشي وتكبر وتأخذ شكلها وخصائصها فيها، من دون أن تُدفن فيها بالضرورة. في المدن، الهزيمة تعرّف عن نفسها وتأخذ من أجسادنا ونظراتنا ومشيتنا وصوتنا المكتوم مسكنًا لها.المدن تؤمّن للمهزوم ولهزيمته الإضاءة والسينوغرافيا والمُشاهدين، الكثير من المشاهدين غير المُبالين الذين يحجزون لمؤخراتهم مقاعد دائمة لمتابعة هزائم الآخرين والتأكد من أنها ليست هزائمهم وأنها ما زالت بعيدة منهم.الهزيمة التي لا تظهر إلا في المدن، هي حدث يتم بثه مباشرة. بث مستمر طوال ساعات النهار والليل. ولأنه مستمر بلا توقف، يصبح خالياً من الحدث. ولأنه مستمر، لا يمكن للمُشاهدين متابعته كل الوقت. وفي غياب الحدث، لا خوف من تفويت حبكة أو مَشهد. كل المَشاهد سيّان. يتركون كل منصات النقل المباشر، شغالة، فيما يتابعون مهامهم الحياتية بعيدًا من هزيمتك، ويتسنى لكل منهم، بين الحين والآخر، أن يلحظ بعضًا منها: وأنت تعبر أمام سياراتهم، وأنت لا تقوى على فتح عينيك على اتساعهما، وأنت تمشي بخطوات متثاقلة، وأنت تجلس في المقهى وتراقبهم فيما هم يراقبونك، وأنت تبحث في وجوههم عن مهزوم مثلك.هزيمتك هي برنامج تلفزيون الواقع، المستمر بضمان جمهور مُتابع، ولو لدقائق، فتحصل على تغطية على مدار الساعة، وتتجلى بالظهور. فكلما زاد عدد الجمهور، كلما تجلّت هزيمتك... وهكذا تريدها مُستحقة لمكانتها. أين ستجد خارج المدن هذه الجماهير المُتابعة؟