دعت منشورات "صنوبر بيروت"، للاحتفال بإطلاق كتاب "رحلة إلى بلاد المجد المفقود" للفنان اللبناني الراحل مصطفى فروخ، مع مداخلة لهاني فروخ عن قصة الرحلة، الخميس 27 تشرين الأول/ أكتوبر 2022، الساعة الخامسة بعد الظهر، مكتبة برزخ، شارع الحمرا، فوق مقهى روشا.
رحلة مصطفى فروخ إلى اسبانيا كانت في صيف العام 1930، وقد زارها قادمًا إليها من باريس، ودوّن مشاهداته لبقايا وآثار الأندلس الإسلامية، متأملا أهم مدنها التاريخية مثل قرطبة واشبيليا وغرناطة، وضمّن رحلته هذه بعض الصور واللوحات التي رسمها بنفسه، كما ضمنها ملاحظاته عن الإسبان حينذاك، وكان بالطبع لا يخلو من معلومات تاريخية ذات قيمة سواء عن الأندلس الإسلامية، أو اسبانيا حين زيارة مصطفى لها. وكتب الأديب عمر فاخوري في تقديم الطبعة الأولى التي صدرتْ عن مطبعة "الكشاف - بيروت": "لعمري أن لغتنا وأدبنا لا يجنيان إلا خيراً من عمر أهل الفنون بهما، اذ كلّ يكسبهما من خواص فنه، وأساليبه وأداته وسننه، ما يزيدهما غنىً ونماءً، وينحو بهما المناحي الجديدة التي لا حياة للآداب واللغات بدونها. ثم أليست الفنون جميعاً وان افترقت سبلا، تجتمع اخيراً تحت راية واحد_ وهي سحر البيان؟
والرحلة لقيت حين صدرت العام 1933 الكثير من الاهتمام، فكتب محمود الخفيف في مجلة "الرسالة" (عدد 13) العام 1933: "كتاب أنيق الشكل جيد الطبع، لا تكاد تتناوله حتى تدرك أن صاحبه من رجال الفن، فهو بقلمه وبريشته، على غلافه صورة لناحية من جامع قرطبة وقد كتب عنوانه من الخارج ومن الداخل بخطين مختلفين طريفين، وتناثرت فوق صحائفه طائفة من الصور التقطت بعضها عدسة التصوير، ونقشت بقيتها ريشة المؤلف الفاضل فجاء في مجموعها جامعة بين الجمال والفائدة، ولذلك فالكتاب من هذه الناحية طريف خفيف الظل. وتقرأ في أوله كلمة تحت عنوان (الأندلس) فتلمس فيها إعجاب الكاتب بتلك البلاد وتشوقه إليها، بل هيامه بها قبل زيارتها، تلمس ذلك في مثل قوله (أجل شغفت بها طفلا وشابا وسأحتفظ بهواها مدى الحياة) وكأنك لشدة حماسته تسمع صوته ولست تقرأ عبارته، ولذلك فالكتاب من هذه الناحية قوي الروح عميق الأثر". يضيف محمود الخفيف في مقاله: "ومما أحمده للمؤلف تلمسه الروح العربية في تلك البلاد(...) تجلت له تلك الروح في عادات الناس وفي شكل المنازل ذوات الردهات الفسيحة والأبواب والنوافذ العربية، وفيما رآه من أمثال بائعي (البوظة) والليموناضة، وهم يضربون صحونهم ويصيحون في لحن عربي على نحو ما يشاهد في شوارع دمشق". وتضمنت التعليقات على رحلة فروخ بعض النقد، اذ جاء في مقال محمود الخفيف "على الرغم من إعجابي أصارح المؤلف بان أسلوبه مع الأسف لا يتمشى مع روح الكتاب ولا يتناسب مع ما يحتويه من فن وادب، ولولا حماسة الكاتب، ودقة وصفه وتدقق معانيه لفقد الكتاب بذلك الأسلوب كثيرا من قوته، هذا عدا ما فيه من هفوات تاريخية لا أحبها له، كقول المؤلف: إن معاوية بن هشام ابن عبد الملك المسمى بالداخل أتى من الشرق هارباً عام 759م والواقع أن الذي جاء هاربا من الشرق هو ابنه عبد الرحمن الداخل"...
وكتب محمود شاكر في مجلة "المقتطف"، المجلد ٨٣، نوفمبر/ تشرين الثاني ١٩٣٣: "فقد اجتمع للأستاذ فروخ في هذا الكتاب من دقة الوصف وبراعة البكاء على أطلال المجد العربي وصحة النظر الاجتماعي والإحاطة بكثير من تاريخ البلاد التي رحل إليها -الأندلس- ولطافة الملاحظة، ما عدمته كثير من الرحلات التي قرأناها وكانت أشبه بجريدة الإحصاء أو سجلّ الوفيات والمواليد. ولولا ما يشوب بعض جملها من ضعف التركيب لكانت من أغلى الدرر في كتب الرحلات التي يراد بها إيقاظ الإحساس النبيل في نفوس أصحاب المجد الغابر وإرهاف الشعور السامي في قلوب طُلّاب المجد ومجدّدي حضارة العرب من أبناء هذه الأمة العربية.
بقى أن نلوم الأستاذ فروخ على استهانته بتأريخ ما يذكره من الحوادث بالتاريخ العربي الهجري ذلك لأننا إذا تابعنا أصحاب الفتنة على ما يفتنوننا به من زخرف القول في الاقتصار على التاريخ الميلادي في تاريخنا لاختلط على شبابنا التاريخ، وما ظنك بألف وثلاثمائة سنة كتبت كل كتب التاريخ العربي فيها بالتاريخ الهجري، أيسهل أن نقلب التاريخ الهجري في الكتب العربية إلى تاريخ ميلادي؟ ثم لعلَّ الأستاذ فروخ سيواصل رحلاته إلى أطلال المجد العربي ويخرج لنا الدرر التي طغى عليها تراب النسيان، وستر جمالها كيد الكائدين وعنتُ المعنتين فالأمم العربية الآن تحتاج إلى من يذكّرها بمجد أسلافها وعزّ آبائها وحضارة أجدادها لتجد في نفسها مضض الحسرة وفي الحسرة الألم وفي الألم الشعور وفي الشعور الحياة والطموح والشوق إلى الفوز والغلبة".
وُلِدَ مصطفى فروخ في بيروت «محلة البسطة» في عام ١٩٠٠ (على وجه الترجيح) وكان والداه أُمِّيَّان لا يُجيدان القراءة والكتابة، ولكن والده كان حافظًا للأخبار والأشعار والقصص التي كثيرًا ما كان يَقُصُّ طرَفًا منها على ابنه؛ الأمر الذي أثرى خياله وبذر فيه ميولًا فنية راقية ظهرت ثمارُها خلال حياته بعد ذلك.
تلقَّى فروخ علومه الأولية وهو ابن الخامسة في أحد الكتاتيب البيروتية؛ حيث أخذ في حفظ القرآن الكريم ودراسة مبادئ اللغة العربية والحساب، ثم انتقل بعد ذلك إلى المدرسة الابتدائية لصاحبها طاهر التنير الذي بهرته مواهب فروخ الفنية فطلب منه أن يُعاوِنَه في إصدار مجلة «المصور» الأدبية ويمد صفحاتها بالصور واللوحات اللازمة. اصطدم فروخ باكراً بنواحي تحريم التصوير من قبل بعض المشايخ، لكن الشيخ مصطفى الغلاييني شجعه لمتابعة المسيرة في رسم صفحات الوجه والكشف عن الملامح والطبائع ودراسة أسراره التشريحية والجمالية في محترفات عدة. بدأت هذه المسيرة في استوديو كاترينا جول لند في محلة الزيتونة (1913- 1914) وتطوّرت في محترفـات حبيب سرور- الجميزة (1916- 1924)وانطونيو كالكانيا دورو- روما (1924- 1925) وأومبرتو كورومالدي - روما (1926- 1928) وبول شاباس - باريس (1929) .
عاد الى بيروت عام 1932، بعد رحلة طويلة في اسبانيا درس في خلالها فن البناء العربي المزخرف في الأندلس، فكان لذلك أثر عميق في فنه في ما بعد وفي اتجاهه إذ أخرج في أثناء إقامته في اسبانيا وبعد عودته منها لوحات رائعة تمثل الفن العربي في الأندلس. وفي بيروت ساهم في الحركة الفنية اللبنانية الطالعة، وكان فروخ أول أستاذ يدرّس الفن للراغبين في الجامعة الأميركية.
رسم فروخ مشهديات كثيرة لمدن غربية عدة، كما رسم شخصيات غربية، لكن بؤرة اهتمامه بقيت لبنانية، أي رسم المشهد الإجتماعي والطبيعي والتاريخي اللبناني.. تُوُفِّيَ في عام ١٩٥٧م فروخ بعد صراع مُنهِك مع سرطان الدم.