قرّر رئيس الجمهوريّة يوم أمس الخميس 13 تشرين الأول أن يعلن بإسم الأمّة اللبنانيّة جمعاء سيره باتفاق ترسيم الحدود البحريّة بين لبنان وإسرائيل، من دون مناقشته في مجلس الوزراء، ولا إقراره في مجلس النوّاب. ولرفع العتب، استبق رئيسي الحكومة ومجلس النوّاب الخطاب بتوزيع نسخ من الاتفاق المكتوب على النوّاب والوزراء، لأخذ العلم والاطلاع، من دون أن يتم استتباع هذه الخطوة بأي دعوة للمصادقة أو التعليق أو حتّى الاستفسار. فما كُتب قد كُتب، وما صُدّق عبر الاجتماعات المكّوكيّة والتداولات السريّة قد صُدّق. وبما أنّ رئيس الجمهوريّة قد أعلن جهارًا يوم أمس الموافقة على هذه الصيغة النهائيّة، قاطعًا الطريق على أي ملاحظات أو استيضاحات إضافيّة، بات بالإمكان الشروع بتحديد الخطايا العظمى التي ارتكبها الرؤساء الثلاثة في اتفاق ترسيم الحدود البحريّة.إسقاط حقوق لبنان التشغيليّة في البلوك رقم 9من غير الواقعي افتراض أن الدولة اللبنانيّة تملك اليوم قدرة الدخول كشريك مشغّل في البلوك رقم 9، إلى جانب شركة توتال، رغم امتلاكها اليوم حصّة غير مشغّلة تبلغ حدود 20%، بعد أن آلت إليها حصّة شركة نوفاتيك الروسيّة المنسحبة من الشراكة في الحقل. إلا أنّ مفاعيل الاتفاق كما هو واضح من النص لن تقتصر على المدى المنظور فقط، بل سيمثّل "حلاً دائماً ومنصفاً" على المدى الطويل، ما يعني أن تداعياته ستستمر لعقود طويلة، بعد تثبيت معادلات التفاهم المستجد في حقول الغاز الحدوديّة. وبمجرّد تثبيت هذه المعادلات، سيكون من الصعب التراجع عنها أو استعادة الحقوق اللبنانيّة المنتقصة فيها.
الإشكاليّة الأبرز في الاتفاق الراهن تكمن في حرمانه الدولة اللبنانيّة من حقوقها في الدخول كشريك مشغّل في البلوك رقم 9 بأسره، ما يعني عدم إمكانيّة دخول شركة وطنيّة في شراكات مستقبليّة مع الشركات الأجنبيّة في هذا البلوك في المستقبل البعيد. مع الإشارة إلى أنّ تأسيس شركة وطنيّة ودخولها كشريك، ولو بعد عقود، يمثّل خطوة بديهيّة في بلد يرغب بتطوير استثماراته البتروليّة. وهذه الشركة، قد لا تحتاج إلى تولّي كامل أنشطة الاستثمار والتشغيل في البلوك، بل قد تكتفي بضمان "العائدات السهلة" في القطاع، من خلال القيام بالأنشطة الاستثماريّة المكمّلة لعمل الشركات الأجنبيّة.
ببساطة، سيحرم الاتفاق أجيالًا من اللبنانيين من هذا الخيار في أحد البلوكات النفطيّة العشرة، ما يمثّل خطيئة كبرى وتنازلًا عن حق سيادي كبير، من دون أي مبرّر منطقي.ربط استثمار قانا بالموافقة الإسرائيليّةمن الناحية العمليّة، سيكون بإمكان إسرائيل الشروع باستخراج الغاز من حقل كاريش بمجرّد المضي قدمًا بالاتفاق الراهن، الذي لا يأتي أساسًا على ذكر الحقل أو أي حقول أخرى جنوب الخط 23، ولا يقيّد أنشطة إسرائيل بأي قيود هناك. في المقابل، ورغم تأكيد الاتفاق على الشروع باستثمار حقل قانا بعد توقيعه، ظلّت أنشطة شركة توتال في الحقل مقيّدة ببنود تشترط إنجاز تفاهمها المالي مع إسرائيل قبل القيام بأي عمل استثماري. وفي هذا الجانب من الاتفاق، لم تلتزم إسرائيل سوى "بحسن النيّة" في مفاوضاتها مع توتال، التي لم تصل إلى خواتيمها بعد. بهذا المعنى، أقبضت إسرائيل على مفاتيح حقل قانا من خلال هذا الاتفاق، عبر ربط استثمار الحقل بموافقتها على التفاهم المالي، ما سيسمح لها بعرقلة أي نشاط بترولي مستقبلي بمجرّد رفع سقوف مطالبها في الحقل.
وتجدر الإشارة إلى أنّ إنجاز التفاهم المالي بين توتال وإسرائيل لن يعني حلحلة جميع المسائل المرتبطة بالحقل. إذ ستحتفظ إسرائيل بوصفها "صاحب حق اقتصادي" بحق الفيتو في كل مرحلة من مراحل الاستخراج والاستثمار، بمجرّد حصول أي تباين في تفسير المعطيات الجيولوجيّة، كما يجري في العادة في هذا النوع من الأنشطة الاستثماريّة. باختصار، أعطى الاتفاق إسرائيل حقل كاريش، فيما ظلّت سيادة لبنان على حقل قانا (المحتمل، والذي لم يتم تأكيد مخزونه بعد) مرهونة بالاتفاق غير المباشر مع إسرائيل.
السؤال الأساسي هنا، يتركّز حول سبب عدم انتظار إنجاز التفاهم بين توتال وإسرائيل حول حصّة الأخيرة في حقل قانا، وحول شروطها المتصلة بتشغيل الحقل، لضمان سير العمل في هذا الحقل بمجرّد توقيع اتفاق ترسيم الحدود، عوضًا عن توقيع الاتفاق بهذه الصيغة التي تركت المسألة معلّقة بانتظار تفاهم مالي لم يتم بعد.التنازل عن الملكيّة الكاملة لحقل قاناحاول المسؤولون اللبنانيون الإيحاء طوال فترة المفاوضات بحصول لبنان على حقل قانا كاملّا، على أن تسدد شركة توتال من أرباحها تعويضًا لإسرائيل مقابل ذلك. لكنّ مجرّد قراءة نص الاتفاق كفيل بالاستنتاج إلى أنّ المسؤولين باعوا الرأي العام اللبناني أوهاماً بعيدة عن الواقع، إذ أنّ إسرائيل وبموجب الاتفاق باتت شريكة وصاحب حق اقتصادي في الحقل، الذي يقع جزء منه جنوب الخط 23، فيما سيتم تحديد الحصّة الإسرائيليّة بموجب التفاهم المالي بين توتال وإسرائيل. وبهذا المعنى، فلبنان غير معني بمفاوضات توتال مع إسرائيل، وحقّه محفوظ، لكن بوصفه مجرّد شريك وصاحب حق اقتصادي آخر في الحقل، تمامًا كإسرائيل. وإذا كانت توتال ستعمل لصالح لبنان كما يرد في نص الاتفاق، فمن الأكيد أن التفاهم المالي بين توتال وإسرائيل (شريكنا في الحقل) سيضع إسرائيل في المقام نفسه.
مع الإشارة إلى أن توتال لن تتمكّن من حفر أي بئر في الجزء الجنوبي من حقل قانا، الذي يقع خلف الخط 23، إلا بالاتفاق مع الإسرائيليين، ما يؤكّد شراكة إسرائيل في الحقل كصاحب حق اقتصادي على المدى الطويل، لا مجرّد طرف متنازل لقاء تعويض. كما نص الاتفاق على بنود تلزم توتال بإخطار الجانب الإسرائيلي قبل العبور في الجزء الجنوبي من حقل قانا، بما يوضّح مجددًا "سيادة" إسرائيل على مياه هذه الحقل الجنوبيّة، بخلاف ما سوقّه المسؤولون اللبنانيون قبل نشر مضمون الاتفاق.التنازل عن الخط 29.. لقاء ماذا؟من الأكيد أن أي تفاوض أو تفاهم يستلزم تنازلات متبادلة، ما يفرض عدم المزايدة الشعبويّة في هذا النوع من الملفّات، خصوصًا تلك التي تتركّز على تعيير المُفاوض بأي تنازل يُقدم عليه. إلا أنّ لبنان امتلك منذ البداية ملفاً قانونياً صلباً، يسمح بالمفاوضة على أساس الخط 29، الذي يعبر ضمن حقل كاريش الذي تستثمره إسرائيل. وحين تنازل الرؤساء الثلاثة عن هذا الخط، وانتقلوا إلى المفاوضة على أساس الخط 23، بتراجع قدره 1430 كلم2 من المياه البحريّة، جرى ذلك على مبدأ الحصول على حقل قانا كاملًا، الذي يقع على جانبي الخط 23.
أمّا اليوم، وبعد أن تبيّن أن لبنان مجرّد شريك في حقل قانا، إلى جانب إسرائيل، فبات من الضروري السؤال: على أي أساس تم التنازل عن الخط 29 ولقاء ماذا؟ وما قيمة هذا التنازل إذا لم يتم تحصيل أي مكسب إضافي، فوق الخط 23 الذي كانت قد سلّمت به إسرائيل منذ سنوات، ورسّمت على أساسه بلوكاتها البحريّة؟
مع العلم أنّ لبنان امتلك فرصة تاريخيّة للضغط وتسجيل مكاسب في هذا الملف، بعدما بات ملف مصادر الطاقة في شرق المتوسّط مسألة تُعنى بتوازنات أسواق الغاز الدوليّة، التي تتخطّى بخطورتها وحساسيّتها الحسابات اللبنانيّة أو الإسرائيليّة وحدها. وهنا بالتحديد، تكمن الخطيئة الكبرى.