بين الشلل المقيت في المؤسسات التربوية الحكومية، والطبقية الفادحة التّي جعلت المدارس الخاصة حكرًا للنخب المتمولة، وبين المناهج التقليدية التّي عفا عليها الزمن والمناهج القائمة على الترهيب والحشو والتصويب الديني أو السّياسي أو حتّى الاجتماعي، تمكنت مدرسة "عقول حرّة" من خلق نموذج يختلف جذريًا عن النمطي والمُكرس.فهذه المدرسة التّي تأسست منذ سنتين على يدّ مجموعة من الأساتذة والمعلمين/ات والناشطين/ات والعاملين/ات في الشأن الاجتماعي تمكنت من شقّ طريقها متجاوزةً كل العقبات والأزمات المستفحلة، لخلق بيئة تعليمية وتربوية مبنية على قيم الحداثة والمدنية، مستهدفةً كافة الطلاب في قضاء الهرمل، بغض النظر عن خلفياتهم الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والدينية.
وإن كان من الجميل، وفي خضم الانهيار المُطرد في النظام التربوي اللبناني بشقيه الرسمي والخاص، أن ينبثق مثل هذا النموذج التعليمي والتربوي الذي يحمل في صلبه قيماً إنسانية حديثة ونمطاً تعليمياً خلاّقاً، فإن الأجمل أن هذا النموذج انبثق كبصيص أمل للمواطنين في أكثر المحافظات ازدحامًا بالأزمات ومنذ عقود وتحديدًا في قضاء الهرمل، الذي يقع أقصى لبنان جغرافيًا وإنمائيًا وحقوقيًا.نموذج تعليميتُشير غصون وحود مديرة مدرسة "عقول حرّة"، في حديثها مع "المدن"، للأسباب التي جعلتها ومجموعة من العاملين بالقطاع التعليمي لتأسيس هذه المدرسة التي تعتمد على نظام تعليمي حديث، قائلةً: "نحن مجموعة تأسست بين عام 2009 و2010 تحت اسم نادي الهرمل الرياضي- الثقافي، نعمل بشكل تطوعي مع السيدات والشباب والأطفال في الهرمل، ونقوم بتنظيم مشاريع ونشاطات ثقافية، غنية ورياضية. كان حلمنا دائمًا أن نؤسس مثل هذه المدرسة التّي تولي اهتمامًا لتربية الأطفال المسجلين فيها على المبادئ الوطنية، بعدما لاحظنا الخلل الجسيم في البنية التعليمية التّي تتقاطع في صلبها مع خلفيات المدارس الحزبية والدينية وصولاً للعائلة والعشيرة، وإيمانًا منا بأن الوطن لا يستقيم سوى باستقامة وتغيير النظام التعليمي المبني على قيم المواطنة. وقد ترسخت فكرتنا هذه بعد الإحباط الذي عايشناه في انتفاضة 17 تشرين، بعدما تأكدنا أن الانتماء للأسف ليس للوطن. وهنا قررنا ترجمة هذا الحلم على أرض الواقع وقمنا بتأسيس مدرسة عقول حرّة".
وتضيف وحود: "اسم المدرسة يُعبّر عن ما نتطلع عليه من قيم كالحرية، الاستقلالية، المسؤولية، الديمقراطية، التعاطف، العدالة الاجتماعية والمواطنية. فالمدرسة هي للتعليم البديل والحديث، تؤمن جوّاً تعليمياً دافئاً وآمناً ومحفزاً، يتلاقى مع الحاجات الفردية والنمط التعليمي لكل متعلم، وتسمح بتطوير قدراته الذهنية والمعرفية والانفعالية والعاطفية والاجتماعية. إذ أن المبدأ الأساسي بالتعليم الحديث هو الإيمان بمقدرة كل فرد من دون استثناء. فالأطفال هم الفاعلون بالتجريب والتحليل والاكتشاف والتطبيق. والأستاذ هو المنسق والمسهل للعملية التعليمية. لا نعتمد زيّاً مدرسياً، ولا امتحانات كما باقي المدارس أو علامات مدرسية، بل هناك تقييم ذاتي يُقام عبر المشاريع التّي تنبع من حاجات الطلاب ومن محاور اهتمامتهم. وغالبية المواد الدراسية لا نعتمد في تدريسها على كتب، بل نعتمد مناهج تفاعلية في تدريس المواد".
وأكدّت وحود أن: "أساتذتنا يتلقون تدريباتهم من قبل الرابطة الدولية للتعليم الحديث، التّي عبرها سنشارك بالمؤتمر العالمي في بلجيكا نهاية الشهر الحالي. وقد تجاوز عدد طلابنا المسجلين هذه السنة المئة وأربعين طالبًا، مقسمين على الصفوف الإبتدائية والأساسية حتّى صف الصف الرابع".تحدي الأزماتبالرغم من كل الأزمات المحيطة بها تمكنت مدرسة "عقول حرّة" من استقطاب الدعم والمساندة المحلية من قبل الجمعيات والمراكز الثقافية المقربة منها. ففي حين كانت المدارس الخاصة الأخرى تقوم بدولرة أقساطها ورسوم التسجيل، لم تتجاوز أقساط مدرسة "عقول حرّة" المئة دولار على سعر صرف السّوق السّوداء، متضمنًا كافة الرحلات والنشاطات التّي تُقام يوميًا، وذلك لأن المدرسة لا تسعى لأي ربح مادي، كما أشارت وحود، التّي وحسب ما ذكرت: "نحن مجموعة من الأشخاص لسنا متمولين بل عاملين في الشأن الاجتماعي والتربوي، ونحاول في ظلّ الظروف المحيطة تأمين ما يمكن تأمينه لضمان استمرارية خطتنا التربوية، من دون وضع أعباء تعجيزية على أهالي طلابنا. فالسنة الماضية مثلاً اعترض الأهل على الأقساط المتدنية رغم غلاء المعيشة، وارتفاع أسعار المحروقات خصوصاً المازوت الذي يُستخدم للتدفئة، والرحلات المكثفة التّي تستوجب دفع تكاليف النقل وغيرهاً.. واقترحوا زيادة الأقساط، إلا أننا قمنا بطمأنتهم أن الظروف لا تزال مقبولة طالما كنا نتلقى الدعم والتمويل الكافي. إلا أننا أضطررنا لزيادة الأقساط هذه السنة ولم نلحظ تسرب أي من الطلاب المسجلين في مدرستنا، واليوم لا تتجاوز قيمة القسط مبلغ الثلاثمئة دولار، وذلك بسبب ارتفاع أسعار المازوت وتأرجح سعر صرف الدولار".
ومراعاة لأحوال الطلاب وأهلهم، تبحث الإدارة في حالة كل طالب خصوصاً منهم الذين يعانون من ظروف اقتصادية/ إجتماعية متعثرة، وتقوم بتكفل كافة شؤون المتعثرين: "انطلاقًا من إيماننا بأن هذا الطفل إذ تمكن من التعلم في مثل هذه البيئة الصحية فهو استثمار مستقبلي لعائلته ومحيطه ومجتمعه، فنحن بحاجة لأشخاص تغييرين في مجتمعاتهم لا تعزيز لمنطق الفردية والخصوصية".لعل مدرسة "عقول حرّة" هي نموذج إيجابي ومُلفت في خضم ما نعايشه يوميًا من أزمات مستفحلة في مضمار التعليم، وإن كانت "عقول حرّة" قد أسهمت بشكل مباشر بتبديد المخاوف لدى بعض الأهالي على مستقبل أبنائهم التعليمي في الهرمل أكثر الأقضية تهميشًا وتأزمًا، فإنها أيضًا سلطت الضوء على مبدأ حقوقي وإنساني أسمى وهو حقّ الأطفال بالتعليم بغض النظر عن خلفياتهم، ومن دون تسليع التعليم أو جعله مادةً تجارية، بل وضعه في سياقه الحقيقي، أي بوصفه المدخل لإعداد المواطنين الصالحين والفاعلين في مجتمعاتهم.