13 تشرين كان وما زال ذكرى حزينة. ليس ذكرى هروب الجنرال من القصر، بل سقوط المكان بيد جيش حافظ الأسد. 13 تشرين الأول كان يوماً بطبقات شؤم كثيرة آتية. الهزيمة التي ألحقها البعث بنصف اللبنانيين كانت انتصاراً للنصف الآخر منهم. ليس هكذا كان ينبغي أن تنتهي الحرب الأهلية اللبنانية، بجيش غريب يقتل جنوداً لبنانيين تخلى عنهم قائدهم ويعتقلهم ويخفيهم ويقف ليرقص فوق أطلال القصر، يشاركه، يمشي خلفه، جنود جيش لبناني ثانٍ.
القائد الذي انسحب باكراً من المعركة الأخيرة، كان قد أقنع ناسه بأنه يقاوم العالم وحده، من أجل لبنان. من أجل الشرعية والحرية والسيادة والاستقلال وسلطة الدولة. كان يقف يومياً على شرفة القصر ببزته العسكرية ونجومه ويصرخ في شعب لبنان العظيم، ثم يلتفت إلى جنرالين يلتصقان به، فيجدهما مبتسمين له، يهزّان برأسيهما علامة الذهول بأفكاره. وكأي جنرال حين لا يعود يسمع إلا صوته، ظّل طوال عامين لا يخوض إلا معارك خاسرة، يرمي قذائف مدافعه على المسيحيين كما على المسلمين، لا يفرّق بين مدني ومدني. لا عرف كيف يدير حرباً ولا عرف كيف يدير سياسة. وبقي، حتى آخر ليلة في القصر، يحكي. القبطان الذي سيكون آخر من يغادر السفينة، ولن يغادر. بقي على عناده حتى تحوّل إلى مشكلة محلية وإقليمية ودولية. قامر بمن وما لا يملك، حتى سلّم البلد برمته، مع القصر، لبعث الأسد. صار "السيد الرئيس" يحرّك الطوائف والتاريخ والحاضر والمستقبل كما يشاء. يعيّن رؤساء الجمهورية والحكومة بالإيماء. يُعدّل الدستور مرة بعد مرة كرمى لعينيه. يتحول مجلس النواب إلى نسخة عن مجلس الشعب عنده. يدير ضابطه المعين في لبنان البلد وسياسييه وأحواله كما تدار محافظة في سوريا. يرسّخ ثقافة البعث ولغته. يعلّق لبنان، ورقته الوحيدة الباقية له، في الهواء بانتظار ما ستؤول إليه أمور نظامه وحساباته في الربح والخسارة.
ليس ميشال عون المسؤول الوحيد عما فعله البعث بلبنان بعد 13 تشرين، لكنه كان الحجة الاخيرة، العثرة التي ما أن تزاح حتى تشرق الشمس. هل كان بامكانه أن يفعل غير ما فعل؟ ألا يعادي كل اللبنانيين الذين لم يوافقوه طموحه؟ هل كان جنّب البلد مثل تلك النهاية، أن يهلل شعب لطيران جيش البعث يقصف قصر رئاسته ولجنوده يرفعون شارات النصر فوق بقاياه؟ بماذا كان يفكر الجنرال يوم سلّم البلد للبعث بهذه السهولة؟ ربما كان يخدع الأسد. يعد خطة محكمة للانقضاض عليه بعد رحيله وتولي ابنه للخلافة. خطة للانتقام بعد 15 سنة من الانتظار في فرنسا، حيث سيؤدي اغتيال رفيق الحريري إلى انسحاب جيش البعث من لبنان، وعودة الجنرال بطلاً كل مجده أنه انتظر ليركن أسفل عباءة حليفه المستجد القوي وهو يستعيد زمام السيطرة المطلقة بالحديد والنار واليوم المجيد. حليفه الذي يمثل كل ما أمضى العماد حياته يطلق حكمه ومواعظه ضده. ثم ينتظر مجدداً واحدة من لحظات سعد الحريري الخرقاء ليعود إلى القصر. وكما لو أن المشهد نفسه يستعاد بحذافيره، وقد استبدل الجنرالين المبتسمين بالصهر المناضل الذي تفوق على عمه في صناعة الأعداء وتوهّم المؤامرات.وكما مرت السنتان كابوساً طويلاً، ها هي السنوات الست مرّت كابوساً متصلاً علّ السماء تتدخل في اليوم الأخير منها كي لا يترك الجنرال خلفه مصيبة أخرى كتلك التي تركها يوم 13 تشرين. وبعد الدروس المتكررة التي لقنها للبنانيين في اسلوب تعاطيه مع الكوارث المتلاحقة التي أصابت البلد خلال عهده، يحق لهم أن يصرّوا على تشاؤمهم حتى اليوم الأخير، وما بعده. لن يتنهدوا مرتاحين بعد مغادرته القصر. فالبلد الذي يعيده لهم في 31 تشرين الأول أسوأ بألف مرة من البلد الذي استلم رئاسته قبل ست سنوات. ليس ذنبه. ليس ذنبه. كان لديه مشروع كبير للبنان ولم يسمحوا له. المشروع نفسه الذي كان يعدّه للبنان ولم يسمحوا له في 13 تشرين. مع ذلك، ففي مروره الثاني المديد، أكد للبنانيين ما حفظوه عنه، وهو أن الجنرال لا يتعلم من أخطائه، وأنه غير محظوظ فينا، ولا نحن محظوظون فيه. وهو درس آخر من مدرسة القائد، لا يفيد إلا في التحسر على ما مضى.13 تشرين ستظل ذكرى حزينة. العزاء الوحيد هي أنها آخر مرة نستعيدها وهو في القصر. في آخر الشهر نضيف إليها ذكرى أشد بؤساً منها، ذكرى تحقيق حلمه بدخول قصر بعبدا رئيساً، ثم تحقيق حلمنا بمغادرته القصر بعد السنوات الست العجاف التي لن يلحقها، كما يبدو من الأفق، لا ماء ولا خصوبة.