غيّب الموت روبير صليبا، المعماري والأستاذ الجامعي الذي برز في السنوات الأخيرة كأحد أبرز المتخصصين في التاريخ المعماري لمدينة بيروت في مرحلة الانتداب. عن 72 عاماً، رحل هذا الباحث اللامع "باكراً وبسرعة بسبب مرض خبيث لم يعطه فرصة"، كما كتب أحد أقربائه، ورثاه زملاؤه وتلامذته في صفحات التواصل الاجتماعي بكلمات مؤثرة، تشهد للأثر الذي تركه في الميدان التعليمي كما في حقل البحث المعماري.نشأ روبير صليبا في منطقة الجميزة، وكان والده يعمل في حقل التجارة في مبنى ريفولي المطل على ساحة الشهداء في وسط بيروت. بدأ مسيرته الجامعية في نهاية الستينات، ودرس الهندسة المعمارية في الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة (ألبا)، وحاز الدبلوم في 1974. بالتزامن مع بداية الحرب الأهلية في 1975، انتقل إلى الولايات المتحدة، وحصل على شهادة في الدراسات العليا من جامعة ميشيغن في 1980، وعمل بعدها على مدى خمس سنوات في مدينة لوس انجليس. عاد إلى بيروت في 1985، وبدأ بالتدريس في الجامعة الأميركية. هام بالعمارة البيروتية منذ ذلك التاريخ، وأخذ يجول بتلامذته في وسط العاصمة المدمّر، وشرع بدراسة هذا الميراث بشكل ميداني علمي، ونشر خلاصة أبحاثه في كتاب صدر بالإنكليزية في 1998 تحت عنوان "بيروت 1920-1940: الهندسة المعمارية المحلية بين التراث والحداثة".تابع الباحث دراسته في هذا الحقل، ونشر في 2004 كتاباً بالإنكليزية حول منطقة وسط بيروت الممتدة من حي فوش ألنبي إلى ساحة النجمة. صدر هذا الكتاب عن دار ستيدل العريقة، وشكّل حلقة أخرى من حلقات هذا البحث الميداني المتواصل في عمارة العاصمة اللبنانية. بالتزامن مع هذا الإصدار، أعدّ روبير صليبا في "السوربون" دراسة بالفرنسية لنيل شهادة الدكتوراه تحت اشراف الدكتور ستفان يراسيموس، العالم الفرنسي التركي المتخصص في الميراث العثماني المتأخّر. حصل الباحث اللبناني على هذه الشهادة كذلك في 2004، وكان عنوانها "المشهد الاستعماري والانتقائية الإقليمية: تكوين النمط السكني في بيروت". هكذا أضحى روبير صليبا متخصصاً في هذا الميدان، وباتت أبحاثه مرجعاً أساسياً لدراسة تلك الحقبة.وضع الكاتب خلاصة ابحاثه في كتاب جامع، صدر في خريف 2009 عن منشورات "بارنتيز" الفرنسية، وعنوانه " هندسات معمارية، بيروت عند أصول الحداثة". وحوى هذا الكتاب خزانة من الخرائط والصور المدعومة بشروح مفصلة تستكشف نشأة العمارة في بيروت وتطورها بين العامين 1920 و1940، وهي الفترة المتزامنة مع عهد الانتداب الفرنسي. في هذه الحقبة التاريخية المضطربة، أُعلنت دولة لبنان الكبير، وأُعلنت من بعدها الحكومة اللبنانية، وكانت بيروت عاصمة للدولة ثم للجمهورية، وقد شهدت خلال عقدين من الزمن حركة عمرانية واسعة جعلت منها "بوابة الشرق".مراحل تكوين بيروتجعل روبير صليبا كتابه في أقسام ثلاثة، وتميّز بحثه بتناوله مرحلة لم يتطرّق إليها البحاثة الذين سبقوه بشكل معمّق. في الواقع، درس الكثيرون الهندسة المعمارية التقليدية التي عرفتها بيروت في القرن التاسع عشر حتى نهاية الإمبراطورية العثمانية، أما مرحلة الانتداب الممتدة من 1920 إلى 1940 فلم تُدرس إلا لماماً. كان لبنان في هذه الحقبة تحت سلطة فرنسا المباشرة، وظهر الأثر الاجتماعي والسياسي لهذه السلطة في أشكال مختلفة، منها الهندسة المعمارية المدنية التي شهدت تطوراً تحديثياً يشهد له الكثير من الأبنية التي تعود إلى هذه الفترة. التزم روبير صليبا منهجاً علمياً صرفاً، وابتعد بشكل كامل عن لغة الحنين والذكرى التي طبعت مجمل الأعمال المتعلقة ببيروت، واستهلّ بحثه بمقدمة وافية تتبعها نبذة تاريخية تتناول أبرز المحطات التي شهدتها بيروت في زمن الانتداب.كانت بيروت في الزمن العثماني الأخير، عاصمة لولاية حملت اسمها، ثم أضحت عاصمة لدولة وُلدت في كنف السلطة الفرنسية، أُطلق عليها اسم "لبنان الكبير". عرفت المدينة أولاً حركة تحديث بشكل غير مباشر من طريق اسطنبول في نهاية القرن التاسع عشر، وتواصلت هذه الحركة بشكل مباشر من طريق باريس في زمن الانتداب. حصل التحول المعماري الكبير في مرحلتين. جاءت المرحلة الأولى في نهاية الحقبة العثمانية الطويلة، حيث اتسعت رقعة المدينة وتخطت الحدود التي عُرفت بها في القرون الوسطى. وفي هذه الحقبة عمرت العاصمة، وارتفعت فيها مبانٍ جديدة ذات طابع حديث. جاءت المرحلة الثانية في عهد الانتداب الفرنسي، وفيها شُيّدت مبانٍ سكنية ذات طبقات عديدة، وذلك نتيجة للنمو السكاني الكبير الذي شهدته بيروت في مرحلة تلاحقت فيها الأحداث السياسية بشكل متسارع.في القسم الأول من كتابه القيّم، تناول روبير صليبا، في فصول ثلاثة، الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي سمحت بقيام هذه الحركة العمرانية الواسعة. وفي القسم الثاني، تناول في ستة أشكال، البناء وعناصر تكوينه المختلفة. وفي القسم الثالث، قدّم قراءة توثيقية لهذا التطوّر من خلال رسوم معمارية تنقل واجهات ثلاثين مبنى من مباني بيروت، منها ثلاثة من منطقة الباشورة، وثلاثة من منطقة السراي، وعشرة من منطقة راس النبع والبسطة، وستة من منطقة الظريف، وخمسة من عين المريسة.كانت بيروت في القرون الوسطى أشبه بقرية يقدّر سكانها ببضعة آلاف، وشهدت تطوراً كبيراً بين 1832 و1841، في الحقبة التي سيطر فيها على بلاد الشام، إبراهيم باشا المصري، ابن محمد علي باشا، باني مصر الحديثة. استمر هذا التطور بعدما تمكنت الدولة العثمانية من استعادة سلطتها على بلاد الشام، وعظم شأن بيروت إثر انتقال تجارة الإفرنج إليها. أُعلنت ولاية بيروت في العام 1888، وضمّت ألوية بيروت وعكا وطرابلس واللاذقية، وعرفت حركة عمران مهمة أدت إلى رسم أهم أقسام المدينة، ومنها ساحة البرج وباب إدريس. مع نهاية الحرب العالمية الأولى، خرج العثمانيون من بيروت، واستقر الأمر لفرنسا في "سورية الكبرى" وجبل لبنان. وفي أيلول 1920، أعلن الجنرال غورو قيام "لبنان الكبير" أمام كبار أعيان البلاد في قصر الصنوبر. في ظل الانتداب، شهدت بيروت تطوراً اقتصادياً كبيراً مرّ بفترة ضيق بين 1928 و1935. نشأت في بيروت طبقة وسطى جديدة تشكّلت من أصحاب المهن الحرة والموظفين. وتطورت العمارة فيها، وازدهرت أحياء عين المريسة، الصنايع، القنطاري، زقاق البلاط، الباشورة، فرن الحايك، الجميزة، راس بيروت، البسطة، والأشرفية. في المقابل، جرى تحديث الوسط عبر شق طرق وساحات جديدة، منها شارع فوش وشارع اللنبي، وساحة الدباس، وساحة النجمة. في هذه الحقبة، عهدت الدولة الفرنسية إلى "شركة الإخوة دانجيه" لتحقيق خريطة مفصلة لبيروت، وقد استعاد روبير صليبا هذا التحقيق في كتابه مع صورة للخريطة المرافقة له.عاد الباحث إلى المرحلة التي قامت بها هذه الحركة المعمارية، مستعيناً بكل ما عثر إليه من كاتالوغات البناء الأجنبية والمحلية التي طُبعت في ذلك الزمن، وشملت هذه الكاتالوغات، مواد البناء الخام، إضافة إلى حلل الزينة الخارجية المختلفة. بعدها، عمد إلى تحليل علمي ثاقب لنماذج البناء، وهي نماذج متعددة يُصعب على غير المتخصص تصنيفها. واللافت أن هذا التصنيف شمل أدق تفاصيل الواجهات والشرفات، بما تحمله من مكونات تخص الأعمدة والتيجان والعقود. في الخلاصة، أثبت الباحث أن الأبنية "التراثية" في بيروت، ما هي إلا أبنية "حديثة" راجت في ذلك العصر، وقد انتشرت في مناطق "المسلمين" كما في مناطق "المسيحيين"، مما يشهد على "ذائقة مشتركة" انعكست في حركة البناء هنا وهناك.بوابة الشرقتبنّت هذه الأبنية أنماطاً عديدة شاعت في الغرب كما في الشرق، وتميّزت هذه الأنماط باعتمادها أسلوبا انتقائياً يمزج بين أساليب عديدة. في ذلك الزمن، افتتن الشرق بالغرب واعتمد قوالبه وحلله. في المقابل، شهد الغرب حركة "استشراق عمرانية" تمثلت في ابتكار حلل شرقية في ظاهرها فحسب. من هنا، تداخلت الأساليب في الأزمنة الحديثة، وبات من الصعب التفريق بينها. في ختام بحثه، استشهد روبير صاليبا بقول المهندس المعماري الشهير بول سيديل: "أي أسلوب هذا؟ أهو بيزنطي؟ عربي؟ يوناني؟ فلورنتي؟ لا هو هذا، ولا ذاك، وبالرغم من كل ذلك، هذا حديث". في واقع الحال، تنتمي أبنية بيروت "التراثية" إلى هذه الحداثة، وهي كما يلاحظ الباحث من نتاج مهندسين محليين جلّهم من أصول ريفية ليس لهم إي إلمام بإرث بيروت الذي يعود إلى القرون الوسطى. تعكس هذه الأبنية التي شيدها هؤلاء المهندسون، الصورة التي أرادوها لبيروت، وهي صورة "مدينة مستعمرة متوسطية" تمزج بين الشرق والغرب. وهي بتعبير روبير صليبا صورة "ملبننة" لبيروت، "بوابة الشرق".عاد كتاب روبير صليبا إلى الواجهة إثر الانفجار الكبير الذي هزّ مرفأ العاصمة العام 2020، ودُعي مؤلّفه للعمل مع الفريق الاستشاري لإعداد معايير تقييم التراث والمشهد المعماري في لبنان لصالح اليونيسكو، وشارك في إعداد إعلان بيروت العمراني، كما أعدّ معرضاً خاض في هذا الميراث، أقيم في الجميزة في آب/أغسطس الماضي، وذلك بالتزامن مع مرور سنتين على الانفجار الكبير الذي شهدته العاصمة اللبنانية. نظّمت هذا المعرض جمعيّة "مبادرة بيروت للتراث"، واستمّر من 16 تموز إلى 16 آب، وكانت كل معروضاته "بإشراف المعماري والمخطط د. روبير صليبا" كما جاء في الإعلان.