فاز عالم الوراثة والأنثروبولوجيا التطورية السويدي، سفانتي بابو، بجائزة نوبل هذا العام في الطب، لعمله الرائد في الحمض النووي للبشر المنقرضين، محققاً ما كان يُعتبر مستحيلاً لناحية معرفة خصائص الجينات البشرية في غابر الأزمنة. وكان لاكتشافاته الرائعة تأثير ثوري على فهمنا للتطور البشري. وتشمل هذه الاكتشافات تحديد نوع كامل من البشر غير معروف، وكان مجهولاً تماماً بالنسبة للعلم، عاش جنباً إلى جنب مع البشر المعاصرين وإنسان نياندرتال منذ عشرات الآلاف من السنين..الاختلافات الجينيةإنّ قصة انتشار البشر المعاصرين عبر الكوكب واختراع ثقافاتٍ معقدة بالفن والتكنولوجيا، مكتوبةٌ في جينومنا. فرغم أن الجزء الأكبر من الحمض النووي للإنسان الحديث يُعدّ فريداً من نوعه، إلاّ أنه يتشارك التسلسلات المهمة مع إنسان نياندرتال وأشباه البشر الأوائل. لذا، يمكن أن يكون فهم الاختلافات الجينية في غاية الأهمية كمفتاح لفهم حقيقتنا.
ولكن نظراً لأن المادة الوراثية هشة، فإن معظم الحمض النووي المكتشف في العظام القديمة عادةً ما يكون متحللاً للغاية وملوثاً. من هنا، طور العالِم بابو خلال سنواتٍ من الجهود الحثيثة، سلسلة من التقنيات الجديدة التي جعلت من الممكن استخراج وتكرار وقراءة الحمض النووي المكسور، لإعادة بناء المحتوى الجيني الأصلي. منشئاً بذلك نظاماً علمياً جديداً لعلم الأحياء القديمة.
قام بابو، وهو مدير وعضو علمي في معهد "ماكس بلانك" الألماني للأنثروبولوجيا التطورية، وزملاؤه، بسلسلةٍ من الاكتشافات الأساسية التي تضمنت تسلسل جينوم إنسان نياندرتال كاملاً، بعد أقل من عقدٍ من نشر أول جينوم بشري. واكتشفوا نوعاً جديداً من البشر القدامى يُسمى دينيسوفان. وأظهرت النتائج التي توصلوا إليها أن البشر المعاصرين اختلطوا بدرجة كبيرة مع إنسان نياندرتال ودينيسوفان. بعض المتغيرات الجينية القديمة التي ورثناها موجودةٌ بشكلٍ متكرر في بعض المجموعات السكانية الحديثة. وهذا يساعد على تفسير، السبب الكامن وراء قدرة بعض الأشخاص على مكافحة بعض الفيروسات بفعالية أكبر، ولماذا يتكيف البعض بشكلٍ أفضل مع العيش على ارتفاعاتٍ عالية.الإنسان العاقل ونياندرتالتشير أغلب الدراسات البيولوجية أن فصيلة البشر المُسماة علمياً "الهومو سابيان Homo Sapiens" أو الإنسان العاقل، بدأ تاريخها في قارة إفريقيا منذ أكثر من 300 ألف سنة تقريباً. وهناك فصيلة ثانية من البشر عاشت على الأرض قبلنا بزمنٍ طويل، إسمها "نياندرتال Neanderthals". وقد عاشوا في أوروبا وأجزاء من غرب آسيا قبل حوالى 400 ألف سنة. واستمروا في تلك المناطق لفترةٍ طويلة جداً في مجتمعات منغلقة على نفسها.
وقبل حوالى 70 ألف سنة، وقع حدثٌ غامض دفع الإنسان العاقل للهجرة من قارة إفريقيا إلى الشرق الأوسط، ومن هناك إلى أوروبا وآسيا. وفي هذه الهجرة، تعرف على إنسان نياندرتال وحصل اختلاط ما بين الجنسين. وقد انقرض إنسان نياندرتال منذ ما يقرب من 30 إلى 40 ألف سنة. ولا يزال السؤال عن سبب انقراضهم مقابل سيطرة الإنسان العاقل على الكوكب لغزاً رئيسياً، تهدف العديد من النظريات المستندة إلى الدراسات التي تفحص الاختلافات الجينية في مجموعات أشباه البشر إلى تفسيره. وأبرز النظريات الحالية تفيد بأنه مع تطور الإنسان العاقل وبناءه مجتمعاتٍ كبيرة، تم استيعاب إنسان نياندرتال فيها.الشفرة الجينية للإنسان البدائيقبل اكتشافات بابو وزملائه، جاءت معظم معرفتنا عن أشباه البشر القدامى وتطورنا من تحليلات العظام والتحف الموجودة في جميع أنحاء العالم، مثل عظام الإنسان البدائي التي تم اكتشافها لأول مرة في عام 1856.
من خلال تقنيات التسلسل الجديدة والتحليل الحسابي المتقدم، وبمساعدة مجموعة دولية من المتعاونين، أثبت بابو باستخلاصه "الميتوكوندريا"، وهي عبارة عن أجزاء صغيرة جداً من الخلايا الحية، أنه من الممكن فك الشفرة الجينية لعظام إنسان نياندرتال عمرها 40 ألف عام. في عام 2010، نشر هو ومجموعته أول تسلسل كامل لجينوم إنسان نياندرتال في التاريخ، وهو إنجاز كان يُعتبر يوماً ما مستحيلاً. إذ أعاد جينوم الإنسان البدائي إحياء جزء مفقود من تاريخ أسلافنا القدامى. وكشفت النتائج التي توصل إليها أن هناك اختلاطاً جينياً بين إنسان نياندرتال والإنسان العاقل (أي نحن)، ما يعني أنهما اختلطا ذات مرةٍ وتكاثرا.
وللتوضيح أكثر، اتضح خلال الدراسات المكثفة أن كل البشر الذين يعيشون في أوروبا وأجزاء من غرب آسيا، لديهم نسبة 1-4 في المئة تقريباً من الشفرة الجينية للنياندرتال. ما يعني أن التزاوج بين الإنسان العاقل والنياندرتال، حصل في وقت هجرة الإنسان العاقل من إفريقيا.
بعد ذلك، قدرّت مجموعة بابو، من خلال مقارنة جينومات هذه الأنواع البشرية المختلفة، أن البشر المعاصرين انفصلوا عن البشر البدائيين منذ حوالى 550 إلى 760 ألف سنة، وانقسم كلٌ من إنسان نياندرتال ودينيسوفان إلى مجموعاتٍ متميزة منذ 380 إلى 470 ألف سنة.إنسان دينيسوفانغير أن بابو لم يقف عند هذا الحد، فاكتشف نوعاً كاملاً متميزاً وفريداً من البشر، لم يكن معروفاً من قبل، عاش في أجزاء من شرق آسيا وتحديداً في قلب سيبيريا وجبال الصين، منذ مئات الآلاف من السنين. وبفضل تحديد تسلسل عظمة إصبع عُثر عليها في كهف دينيسوفا في سيبيريا عام 2008، خلص العالم السويدي أن الحمض النووي "للميتوكوندريا" من عينة عظام الإصبع يختلف عن مثيله لدى الإنسان العاقل ونياندرتال. وبذلك تم العثور على نوع جديد من البشر القدامى يُدعى دينيسوفان.
وعند مقارنة الحمض النووي لإنسان دينيسوفان، مع الإنسان العاقل والنياندرتال، وجد بابو وفريقه أن هذا النوع عاش في شرق وجنوب شرق آسيا. وأنه اختلط بالإنسان العاقل الذي هاجر من إفريقيا، وتزاوج معه. وكنتيجةً لذلك، تمتلك شعوب المنطقة آنفة الذكر حوالى 6 في المئة من الصفات الجينية لإنسان دينيسوفان.صفات موروثةتغير إنجازات سفانتي بابو نظرتنا لأصولنا وللتاريخ البشري نفسه. وقد اعتبرت لجنة اختيار الفائزين في معهد "كارولينسكا"، أن اكتشافات سفانتي بابو أرست الأساس لاستكشاف ما يجعل البشر كائنات فريدة من نوعها، من خلال إظهار الاختلافات الجينية التي تميز جميع البشر الأحياء عن البشر المنقرضين. والمذهل أن اكتشافاته عرفتنا عن صفاتٍ موجودة عند هذه الأنواع. وعلى سبيل المثال، ورث الناس الذين يعيشون في شرق وجنوب شرق آسيا، وتحديداً في أصقاع ومرتفعات سيبيريا، وجبال التبت، من إنسان دينيسوفان، جين يُسمى"EPAS1"، يمنحهم القدرة على تحمل البرد القارس والارتفاعات الشاهقة.
وبالمثل، اكتشف بابو وفريقه في عام 2021، منطقة أخرى موروثة من إنسان نياندرتال كانت مرتبطة بالحماية من فيروس كورونا المستجد. وحسب وجهة نظرهم، ربما نجت هذه المتغيرات الجينية لأن الظروف التي جعلتها ضارة لم تكن موجودةً باستمرار.
مع ذلك، يؤكد هذا العالم، بأن الجينات التي ورثناها عن أسلافنا القدماء ليست مفيدة دائماً. ففي عام 2020، أكد بابو وفريقه أن الأشخاص الذين لديهم متغيرات قديمة معينة يمكن أن يكونوا أكثر عرضةً لفشل الجهاز التنفسي أثناء إصابتهم بفيروس كورونا المستجد.