على منوال الحكّاءات الخضراوات، تسلك القاصّةُ المغتربة ياسمين حنّوش قصصَها في خيط "خوصة" وتتأمل خيرات الطفولة المشتّتة في حقل أخضر يمتد بين مكانين متباعدين_ العراق وأميركا. توظّف القاصّة حنّوش تأملاتها النباتيّة في ستة وثلاثين نصاً، تستبق بها ظاهرة السرد البيئيّ، مجموعة تحت عنوان "أرض الخيرات الملعونة"(دار الأهلية، عمّان، 2021).
للمرة الأولى تتقدّم قصصُ البيئة الخضراء في سِلك واحد، داخل مجموعة مرتَّبة بأسماء الطبيعة النباتية لاغير، فتتدانى إلى نظرنا مسميّاتٌ غائرة في لا وعي الطبيعة النهاريّ الساطع (بلوطة، زيتونة، جهنمية، نبكة، صفصافة، أثل، خريط، جمبدة، بمبرة، هيلة، رازقية، عرنوصة، خوص... الخ) مؤطَّرةً بذكرى من شجرة آدم (أمّ النبات المبارك في قُرنة البصرة) لتكتمل بها معجزة المجموعة القصصية "النباتية".
أهدتني ياسمين حنّوش (أستاذة اللغة العربية في جامعة بورتلاند ستيت) مجموعتَها القصصية بعبارة مقتطفة من "بصرياثا" تسلّقت أسيجةَ قصصها مثل روح معرِّشة: "الغرابة سلطة كل مواطن فيها_ أي بصرياثا_ وحقّ يعلو على أية سلطة". وفي مجموعتها هذه دلائل خارقة للمكان وسلطته الزمنية، وبراهينُ على وفرة الظلال المخشخِشة بأصواتٍ محسوسة. كتبت ياسمين في مطلع قصة (خشخاشة) معبِّرة عن وحدة براهين الطبيعة وقصصها النباتية: "كلّنا مرتبط بعضنا ببعض. كلّنا جزء من كلّ لا يتجزأ. لا، ليس هذا كلاماً غيبياً، فأنا أتكلم على صعيد الدورة الحيوية قبل كلّ شيء. كلّنا عناصر تتراقص في دورات الماء والكاربون والأوكسجين وباقيها من المواد الكيميائية. نلتحم تارة مثل عشاق هائمين خيّل إليهم أنهم سيظلون معاً مدى الحياة، ثم سرعان ما نودّع بعضنا بعضاً في بحثنا الدائم عن قصة التحام جديد".
ولِدت ياسمين حنّوش في البصرة العام 1978، وفُصِلت عنها في سنّ السابعة عشرة "بفضل متواليات الحروب مثل ملايين العراقيين"_ كما كتبَت في سيرتها الملحقة بالقصص. ولا أفضل من هذا التبرير لاستيضاح اثر الطبيعة الأمّ في سردياتها التي تُذكّرها على البُعد بيومي الميلاد والاقتلاع. إنّ قصصها من نوع "اللبلاب" الذي يؤطِّر بوابات الدخول والخروج في بيوت الأمس: "أنا إطار... أحزمُ لك الشجرَ قصصاً متنوعة في باقة عجيبة تنتقي منها ما تشاء. اقرأها في ترتيبها على دائرة البيئة التي نشأ منها كلّ نبات، أو اقتلعها من جذورها وأعِد إنباتها في سياق آخر. افعلْ ما شئت. ليست لي تقنية أدبية محددة، وعلى ذلك فلن أحدّد مسار أفكارك"_ كتبت ياسمين في مطلع قصة (لبلاب).
ويبدو أنّ خطابها_ الجزءَ المرتبط بالاقتلاع_ ستطغى عليه نوازعُ استرجاعية، جاذبة لتأويلات القراءة النوستالجية. إنّ الإطار الأدبي للقصص يتّسع ليحوي اهتمامات أنثروبولوجية وسياسية، تلوح بين سطور القصص كلّها: "رغم اهتمامي بأسطورتهم، فلم يتوصل أحد بعد إلى حقيقة كوني مصدر تلك الرؤى التي غيرت مجرى سياسة المنطقة وطبائع أناسها وطوائفهم الانقسامية". هذا ما وردَ في مطلع قصة (شجرة آدم)_ والكلام منسوب للشجرة نفسها.
وقد يهجسُ في سِرّنا سببٌ جعلَ ياسمين حنوش مُصرّةً على تذييل كتابة القصص في أماكنها الأصلية (الشيخان، ألقوش، كربلاء، الرطبة، أمّ قصر، هور الغموكة، كراج النهضة، ديالى، مندلي، كركوك....الخ)_ سببٌ ارتبط بالأصول "الاقتلاعية" لشخصياتها النباتية المسرود عنها/ شخصيتها الساردة لها_ وهل هناك أوضح من هذا الإفلات من "قدَرٍ" كان يهدِّد "نباتاتها" التي تحملها تحت ردائها/ عبر سطورِ كتابتها المتنقِّلة بين الأماكن؟ لكنّها لِمَ لجأت إلى تذييل القصة الأخيرة في المجموعة "زقّوم" بمكان سمّته "الأزل" وكأنها عثرت على ملجأ آمن. وأين يقع هذا المكان؟
تقول عن إطار هذه القصة الناجية: "الإطار؟ نعم، ما زال هنا. أنظر حولك، إطار أنيق من اللبلاب الإنجليزي المتطبع بأصول الحضارات وعراقتها، يؤطر برقّة بالغة كلّ خانة من خانات القصص". ولعلنا نلمح وراء هذه الإشارة التأويلية تقاطعَ الطبيعة "الملعونة" مع "أخلاق" الشجر الأصيل_ مع شكّنا في قدرة اللبلاب الإنجليزي على التهدئة ومنح الطمأنينة النهائية. فخطاب الاقتلاع لا يهدأ إلا بإنشاء خطاب "طبيعي" لا يخضع لسلطة العجب!
نتعجّب مع ياسمين، كلّما خطفَ أمام ذاكرتنا اسمٌ لنبات موصوف بتواريخه وطبيعته؛ حتى إذا جلسنا برهة على جذع شجرة آدم (المطروح في المكان نفسه_ مكان اقتران الرافدين دجلة والفرات جنوب العراق) صحونا على رؤيا من رؤى الاقتلاع والهجرة القسرية، ولوّحنا بيد راجفة لخاطر كئيب: أنّى للطبيعة مثل هذا التاريخ الدقيق، وقد أحاط بلسانها لبلابُ النسيان!
تجرّنا حنّوش غصباً إلى حديقتها_ رغم رأينا في أسلوبها القصصي "التقريري" الذي تؤكد فيه أسبقية السرد البيئيّ على جماليات الأدب وزخارفه_ حيث تشير: "لستُ القصةَ الإطارَ بل إطار القصة. أنا إطار بالمفهوم البصري، لكنني لستُ رقشاً أو نمنمة زخرفية ترمز إلى الطبيعة من دون أن تنسخها نسخاً، بل أنا الطبيعة نفسها في أصدق صورها... لم آت هنا لاستبعاد الكائنات الحية والترميز لها، بل جئت لأجعلها تنطق بلسان حالها. ما جئت لأكمّل، بل لأنقض"_ قصة "لبلاب".
ولعل النقض الأقوى يأتي من تفنيد أساطير البشر حول الأشجار، كشجرة الزقّوم، فتعمد القاصّة إلى تصحيح المسار الطبيعي الذي أساء البشر حرفه إلى جانبهم الذكوري، بينما الشجرة جنس أنثوي تنعم باستقلالها "الأزلي" عن منطقهم/ منطقتهم الأسطورية. وتختار حنوش أقصى الأشجار الملعونة "زقّوم" لتعبّر عن منطقها المضادّ، بلسان هذه الشجرة: "أنا وقريناتي من الشجر جئنا نكرر لا غير، بغضب ضروري، حكايا أزلية لهزيمة العدالة الكونية ونؤطر، في هذا الكتيب، هزيمتها الخاصة على يد الرجال من البشر".
حسناً، عندما يتعلّق الخطاب بأمور الشجر، فلينتظر خطابُ القصة البشريّ، ببهرجته الأسلوبية، خارج إطار المجموعة، وليتقدّم فصيل "الحكاية" النباتية، من سياج حديقة التأملات العراقية، الواقعة على بُعد آلاف الكيلومترات من الاقتلاع، ولنصغِ جيداً لخطاه الثابتة! لنتأمّلْ مع القاصّة ياسمين حنّوش أعاجيبَ النبات ينطق عن حاله بحاله!
ملاحظة: مجموعة ياسمين حنّوش _ أرض الخيرات الملعونة_ مُدرجة في اللائحة الطويلة لجائزة ملتقى القصة في الكويت هذا العام.(*) مدونة نشرها القاص محمد خضير في صفحته الفايسبوكية