اختار وزير الماليّة يوم أمس الأربعاء أن يشغل الرأي العام بأحجية جديدة من الأحجيات النقديّة والماليّة، التي يحار المرء في فهمها، بعدما نقلت عنه وكالة رويترز اتجاه المصرف المركزي لرفع سعر الصرف الرسمي من 1507.5 ليرة للدولار إلى 15,000 ليرة للدولار. ثم جاء بيان وزارة الماليّة التوضيحي ليزيد الطين بلّة، بعدما فشل بتقديم أي تفسير واضح للمقصود بتصريحات الوزير، وتحديدًا لجهة معنى رفع سعر الصرف المُشار إليه (راجع "المدن").
لم يُفهم من التصريح، ولا من البيان التوضيحي، الأبعاد والأسس القانونيّة لهذه الخطوة، ولا أهدافها وتبعاتها النقديّة، ولا حتّى كيفيّة اتصالها بخطّة التعافي التي أتى البيان على ذكرها، أو نوعيّة "التداعيات الاجتماعيّة" للقرار التي ستعمل الوزارة على احتوائها. كتلة من الأسئلة التي تصب جميعها في إشكاليّة أكبر: ما هو "سعر الصرف الرسمي" المقصود؟ ما الذي يتحدّث عنه وزير الماليّة هنا؟ أي سعر صرف لأي عمليّات؟ ولغاية مساء يوم أمس الأربعاء، فشلت جميع المصادر المصرفيّة والحكوميّة وخبراء القانون في تقديم الجواب الدقيق على هذا السؤال. ومن بين هؤلاء، ثمّة من أشار إلى أنّ وزير الماليّة نفسه لا يملك الإجابة.إشكاليّات قانونيّة ونقديّةالعودة إلى القانون لم تقدّم أي إجابة شافية ووافية. آخر نص قانوني يأتي على ذكر سعر صرف رسمي لليرة كان قانون النقد والتسليف عام 1964، الذي نصّ في مادته الثانية على وجود تحديد قيمة الليرة بالذهب الخالص بموجب قانون آخر يصدر لاحقًا، فيما نصّ في المادّة 229 على جواز اتخاذ إجراءات انتقاليّة ريثما يصدر قانون يحدد سعر الصرف. لم يصدر هذا القانون، ولم تتحدّد قيمة الليرة بالذهب لاحقًا، وظلّ تطبيق هذه المواد معلّقًا حتّى اليوم.
إذًا، لا يوجد قانون يثبّت اعتماد أي سعر صرف رسمي، بما فيه سعر 1507.5 ليرة الذي أصرّ على اعتماده مصرف لبنان منذ التسعينات. وبهذا المعنى، لم يكن سعر الصرف الرسمي القديم يستند إلى مفهوم قانوني منذ الأساس، لنفهم على هذا الأساس معنى سعر الصرف الرسمي الجديد. بل استند سعر الصرف الرسمي القديم إلى كونه سعر الصرف الفعلي الذي تمكّن مصرف لبنان من تثبيته كأمر واقع في السوق، بمعزل عن كلفة التثبيت وتداعياته، وبمعزل عن قانونيّته.
فهل هذا يعني أنّ سعر الصرف الرسمي الجديد سيمثّل سعر صرف الليرة الفعلي والواقعي بالنسبة لتداولات السوق، كما كان الحال بالنسبة لـ1507.5 ليرة قبل الانهيار؟ هل سيوافق مصرف لبنان على استبدال الليرات بدولارات نقديّة بهذا السعر؟ حتمًا لا، طالما أنّ الجميع يعرف أن توازنات سوق القطع لا تسمح بتثبيت من هذا النوع، وطالما أنّ هناك "منصّة" بسعر صرف آخر يفترض أن تؤدّي هذه المهمّة، ولو بأحجيات لا تقل غموضًا وغرابة عن أحجية سعر الصرف الجديد.هل قصد وزير الماليّة أن قرار تعديل سعر الصرف الرسمي سيعني اعتماده بشكل موحّد في جميع المعاملات الرسميّة مع الدولة اللبنانيّة؟ أيضًا لا، طالما أن الموازنة التي أقرّها المجلس النيابي كقانون منذ أيّام معدودة، حددت عدّة أسعار صرف لهذه الغاية، منها سعر صرف خاص للدولار الجمركي، وسعر صرف آخر لتقدير النفقات، وسعر صرف غريب سيحدده وزير الماليّة لاستفاء الضريبة على الرواتب المدولرة (أحجية أخرى؟). ومنها أيضًا سعر المنصّة الذي ستشتري على أساسه مؤسسة كهرباء لبنان الفيول للمعامل، وهو نفسه السعر الذي تم اعتماده لتقدير إيرادات الاتصالات. بل وثمّة أسعار صرف جاءت غبّ الطلب في اللحظات الأخيرة، حين اضطر المجلس النيابي لزيادة بعض الإيرادات المقدّرة لتقليص عجز الموازنة.
ولعل أطرف ما في المسألة هو أن سيرك أسعار الصرف الهزلي الذي قدّمته الموازنة، على فظاعته وشناعته، يستند –كتشريع صادر على المجلس النيابي- إلى أساس قانوني أقوى مما يسمّيه وزير الماليّة اليوم سعر الصرف الرسمي الجديد، القائم على تفاهم شفهي مع حاكم مصرف لبنان، والذي يدير بدوره سيركاً آخر من أسعار الصرف العشوائيّة في المصرف المركزي. أمّا المفارقة الأغرب، فهي أن الوزير الذي يدّعي امتلاكه قدرة تحديد سعر الصرف الرسمي، هو نفسه ذاك الذي لم يُسمح له بإنهاء كلمته تحت قبّة البرلمان، تحديدًا في اللحظة التي حاول فيها إقناع المجلس باعتماد سعر صرف واقعي في الموازنة.لعبة ميزانيّات مصرفيّة؟سعر الصرف الرسمي المُشار إليه، ليس إذًا سعرًا قانونيًّا لليرة، ولا هو سعر صرف موحّد للمعاملات الرسميّة، ولا حتّى سعر الصرف الواقعي الذي سيتمكّن مصرف لبنان من الدفاع عنه. ما هو سعر الصرف الرسمي هذا إذًا؟
قد تستدعي الإجابة على هذا السؤال العودة مجددًا لفهم دور الـ1507.5 ليرة، سعر الصرف الرسمي القديم الذي استند إلى وجوده وزير الماليّة، للحديث عن زيادته إلى 15,000. فطوال الأشهر الماضية، لم يكن مصرف لبنان يموّل استيراد أي من السلع الأساسيّة على أساس سعر الصرف هذا، ما أفقده قيمته كأحد أسعار تداول الدولار المدعوم. كما فقدان سعر الصرف هذا قيمته في المعاملات الرسميّة، بعد توقّف مصرف لبنان عن بيع الدولار بهذا السعر للدولة، واعتماد الدولة أسعار أخرى لاستيفاء الرسوم والضرائب في موازنة 2022.
ببساطة، وكما بات معلومًا، كان آخر أدوار سعر الصرف الرسمي القديم اعتماده للتصريح عن التزامات المصارف ومصرف لبنان بالدولار. فهل يخفي تعديل سعر الصرف الرسمي على هذا النحو لعبة مصرفيّة في ما يتعلّق بعمليّة إعادة هيكلة القطاع؟ هل يهدف تحديد سعر الصرف الرسمي عند هذا الحد، إلى التمهيد لاعتماد سعر صرف خاص للميزانيّات المصرفيّة، بدل توحيد أسعار الصرف واعتماد السعر الموحّد لهذه الغاية؟ وهل يمكن أن يكون سعر الصرف الرسمي الجديد باباً لليلرة الودائع "غير المؤهّلة"، أي غير المضمونة، بحسب تصنيفات خطّة التعافي الجديدة؟حتّى اللحظة، لا يمكن ترجيح أي إجابة على الأسئلة أعلاه. لكنّ عدم وجود تفسير واحد لمسألة سعر الصرف الرسمي الجديد، وعدم تقديم وزارة الماليّة أي إيضاح جدّي، يرجّح أن يتمحور دور سعر الصرف هذا حول مسألة الميزانيّات المصرفيّة. فالحل المنطقي كان يقضي بنسيان سعر الصرف هذا، والتوجّه نحو اعتماد سعر صرف المنصّة كسعر يراهن مصرف لبنان على اعتماده كسعر عائم وموحّد، لولا أنّ وراء الأكمة ما وراءها.