لعلّ الانتخابات العامة، أكانت نيابيّة أو بلدية أو اختيارية، وبالرغم من كل التشكيك الدائم في مصداقيتها ونزاهتها، هي كل ما تبقى من أشكال الديمقراطية والحقوق السّياسيّة للمواطن في هذا البلد المنكوب. أو إن حقّ القول، هي الدليل الوحيد على إلتزام لبنان كدولة ديمقراطية تنبثق سلطاتها الشرعية من الإرادة الشعبية، بنصّ دستوره والمواثيق الدولية. إلا أن هذا القدر الضئيل مما تبقى من هيكل الدولة، بات يضمحل ويضمر لصالح الشلل المؤسساتي والسياسيّ المقيت، متخذًا الصورة الدراماتيكية نفسها للانهيار. وتجلى ذلك مؤخرًا في تمديد ولاية المجالس البلدية والاختيارية لسنة كاملة، بعد إتمامها الست سنوات من التدهور والانحلال والتوقف القسري عن مهامها تجاه مواطنيها المحليين.
وفي حين لم ينته بعد سكان شرق لبنان المأزوم، وخصوصاً في قضاء بعلبك، من التقاط أنفاسهم من صفعة الانتخابات النيابية في أيار الماضي والخيبة التّي تلتها، فضلاً عن شهور طوال من الاشتبكات الأمنية المتواصلة، والأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتلاحقة، طالعهم التمديد للبلديات وهم في ذروة إحباطهم وسئمهم من واقع مجالسهم البلدية المنحلة أو المتوقفة عن العمل تارةً، والتّي تسودها النزاعات والخلافات تارةً أخرى، والتّي بغالبيتها ومنذ ست سنوات ونيف تنوء صناديقها بالعجز غير المبرر. والذي بحجته تخلفت عن مهامها المختلفة من دون طرح مسوغات أو بدائل، بلّ وأتاحت الفرصة لمتسلقي العمل الإصلاحي في البلدات للقيام بأدوارها بنيّة انتخابية بحتة.تمديد وبلديات منحلةأقرّ مجلس النواب السّابق في جلسته التشريعية بتاريخ 29 آذار 2022، مشروع القانون الوارد بالمرسوم رقم 8953 الرامي لتمديد ولاية المجالس البلدية والاختيارية حتّى تاريخ 31 أيار 2023. وقد بُررت الأسباب الموجبة لهذا التمديد باستحالة إجراء الانتخابات البلدية بالتزامن مع النيابية، مضافة لعدّة عوامل مالية ولوجستية. وبغض النظرعن مدى مخالفة هذا التمديد للأحكام الدستورية، وفق ما أكدّ المجلس الدستوري سابقًا، فضلاً عن تخلف حكومة نجيب ميقاتي عن الوعود التّي قدمتها في البيان الوزاري، الذي نصّ على إلتزام الحكومة بإجراء الانتخابات النيابيّة كما البلدية والاختيارية في مواعيدها، والذي نالت الحكومة الثقة على أساسه.
تنبثق اليوم إشكالية أكبر تنقسم على صعيدين، أولهما سقوط ما يُسمى مبدأ الوكالة الشعبية التّي تمنح مجالس السّلطة الثقة وبالتالي الشرعية، حسب ما نصّ عليه الدستور. وثانيًا من خلال إقصاء مبدأ تداول السّلطة بصورتها السلميّة ومصادرة الإرادة الشعبية وحقّ المواطنين باختيار ممثليهم ومحاسبتهم في المجالس المحلية التّي تشهد انهيارًا مطردًا، كما هو الحال في كافة المؤسسات العامة الأخرى. وتجلى هذا الانهيار بسقوط وانحلال عدد لا يُستهان به من البلديات في مختلف المناطق اللبنانية.ولعلّ بلديات قضاء بعلبك أبرز مثال على هذا الانهيار. فاليوم، ما يتجاوز عشر بلديات في قضاء بعلبك -والذي يُعد من أكبر الأقضية اللبنانية- بحكم المنحلة. أما العدد الأكبر منها فهي متوقفة عن العمل وتسودها النزاعات، مما أنتج حالاً من الفوضى الإدارية والتنظيمية والقانونية، مضافةً إلى سجل طويل من الأزمات التّي يُعاني منها أساسًا هذا القضاء. وفي غالبية هذه البلديات راج القول بأن أعضاءها قد قدموا استقالاتهم وارتحلوا من العمل البلدي مخلِّفين صناديق موازنة فارغة و"إنجازات" تكاد تكون مجهرية.
وأبرز البلديات المنحلة في هذا القضاء حتى اليوم هي: نحلة، حرتعلا، الفاكهة، الفاكهة الجديدة، حوش الرافقة، النبي عثمان، ومعربون...، فيما تبقى النزاعات متأججة في بلدة عرسال والتّي هي أكبر البلدات في القضاء، بعدما قدم أعضاؤها استقالاتهم لمحافظ بعلبك-الهرمل بشير خضر. وتترواح ميزانية كل بلدية بين 300 مليون ليرة ومليار ونصف مليار ليرة سنويًا، ناهيك عن الدعم والتمويل الدولي للمشاريع الإنمائية، فضلاً عن تنظيم وتسيير شؤون اللاجئين السّوريين الموزعين بأعداد هائلة في مختلف البلدات. يُذكر أن هذه البلديات بعد صدور قرار حلّها تتبع مباشرةً للقائمقام، لكن لعدم وجود قائمقام لقضاء بعلبك، يتم تعيين موظف لمتابعة شؤونها بإشراف المحافظ، ومن الممكن أن يكون موظفاً في البلدية أو المحافظة.عمل البلديات اليومأينما حطت بك الرحال في بلديات قضاء بعلبك، ترى مشاهد الإفلاس نفسها: طرقات متعرجة وغير معبدة منذ سنوات، حاويات نفايات تغص بما فيها على جانبي الطرقات، ومعظم المنشآت التابعة للبلديات تحتاج وبشدة لأي شكل من أشكال الصيانة، مجازر بيئية من قطع أشجار أو إضرام النار فيها، بناء عشوائي.. وغيرها، هذه المشاهد التّي تعيد ذاكرة المواطن البعلبكي لحقبة ما قبل إعادة انتخاب المجالس البلدية سنة 1998، حين كانت فترة الشلل المقيت المصحوب بمشاهد التهميش والتراخي نفسها.
في حديثه مع "المدن" أشار محافظ بعلبك-الهرمل إلى أن أزمة البلديات ترجع في أساسها لنقص الإمكانيات الحادّ، فالموازنة إن صرفت (لم يتم صرف أي موزانات أو تمويل للبلديات منذ سنتين) كانت تبلغ سابقًا 300 مليون ليرة لبنانية أي 200 ألف دولار، باتت اليوم أقل من عشرة آلاف دولار على سعر السّوق السّوداء. وبالتالي، أصبحت البلديات عاجزة عن أداء مهامها وواجباتها تجاه مواطنيها كما موظفيها. فالموظفون لم يحصلوا على معاشاتهم منذ شهور عدّة. وقد أدى انقطاع الكهرباء المزمن وغلاء الأسعار طرديًا إلى تفاقم هذا الشلل، والذي جعل بعض البلديات تفضل حلّ مجالسها على الوقوف مكتوفي الأيدي إزاء هذا الوضع.بلدية نحلة مثالاًقد تكون بلدية نحلة التّي تقع شمالي شرق مدينة بعلبك، وتبعد عن مركزها حوالى سبعة كيلومترات المثال الذي من شأنه اختصار واقع البلديات في المنطقة. فهذه البلدية الذي يجري تقاسم مجلسها من قبل الثنائي الشيعي، ممثلين بأعضاء من مختلف العائلات المتناحرة والتّي تسكن في البلدة، قد حُلت بتاريخ 20 تموز بعد أن وافق محافظ بعلبك-الهرمل على استقالة عضو المجلس سامي محمد اليحفوفي وستة آخرون، ليصبح المجلس البلدي الذي يتألف من 15 عضوًا فاقدًا للنصاب القانوني.
وحسب ما أكدّ مصدر في بلدية نحلة لـ"المدن"، فضّل عدم ذكر اسمه، أن سبب الإنحلال قد جاء نتيجة تراكمات جمّة، أسفرت لاحقًا عن حال من الفوضى والاحتجاج في البلدة وإجبار رئيس البلدية على الاستقالة، بعد تأجج الصراع ووصوله لتناحر بين العائلات في نحلة، وأشار: "بدأت الأزمة عندما قررعدد من أعضاء المجلس الاستثمار بقصر بلدي بتكلفة خيالية، ومن دون فواتير، والتّي استنزفت صندوق البلدية المخصص للمهام الإنمائية التّي غُيبت عن البلدة وسكانها منذ عقود، ثم حفر بئر بتكلفة تقدر بآلاف الدولارات لاستخراج المياه، ومن ثم فجأة قررالمجلس البلدي وقف المشروع بحجة تلوث المياه، إلا أن الحجة لم تكن منطقية البتة، إذ أن البئر مرتفع عن البلدة ويقع في جرودها الشرقية المقفرة، حيث لا وجود لأي وحدات سكنية، بينما كان بالإمكان استجرار المياه من ينابيع أخرى متوافرة وبنصف التكلفة، لتأمين المياه لأهالي القرية، فضلاً عن الجوار، بسبب وفرة الينابيع والأنهار الممتدة على طول عشرات الكيلومترات. والفائض منها قد يستخدم لإنشاء مشاريع كهربائية للقرية المطموسة بالعتمة منذ سنتين تقريبًا".
وأضاف: "الكلّ يلوم اليوم رئيس البلدية الحالي فضلاً عن السّابقين الذين تغاضوا عن الهدر والفساد من أجل مصالحهم العائلية والحزبية. فالثنائي الشيعي الذي يحكم البلدة وسكانها منذ عقود قد منع أي فرصة للتغيير الفعلي والإصلاح الحقيقي. وهذه البلدة التّي هجرها غالبية سكانها لانعدام الخدمات الأساسية والأولية تعاني بلديتها من الإفلاس منذ ما قبل الأزمة، بميزانية تقدر بحوالى المليار و200 مليون ليرة لبنانية نُهبت علانيةً ومن دون أي محاسبة، فيما يتقاذف المعنيون التهم ويخوضون الصراعات التّي سرعان ما تنفلت إلى مشاكل عائلية محتدمة. هذا فيما استغل بعض الأشخاص واقع الانهيار، ليقوم بمشاريعه الممولة بثروات مشبوهة، ويقوم بتركيب الطاقة الشمسية لمنازل ذويه والمقربين منه في محاولة لإقناعهم بإنتخابه في الدورة المقبلة".لا شكّ أن هذا القضاء الذي أُعدمت فيه الحياة السّياسيّة منذ عقود، وقاسى الأمرين من حكم الأمر الواقع أكان ثنائياً شيعياً أم عشائرياً، والذي جعل أي فرصة للإنماء والإصلاح شبه مستحيلة، من جهة استحكامه بكافة المؤسسات العامة وخصوصًا البلديات وتطويع كافة رؤسائها على النهج نفسه من الفساد والهدر أولاً، ونهب الإيرادات والموازنات والتمويل الخارجي في كافة المشاريع، وتحت فواتير وهمية أحيانًا، وبقوة السّلاح والنفوذ أحيانًا أخرى، بغاية إحباط ثقة المواطن بسلطاته الشرعية، وبالتالي لجوئه مرغمًا لسلطتها. وهذا الإختلال في السّلطات وتأرجح الحاجة إليها هو ضرب صريح بمبدأ العقد الاجتماعي، وتخلّ واضح عن سيادة القانون ومؤسساته المولجة ببسطه.