تُشاهد النسوة العربيات والأوروبيات والأميركيات والآسيويات وقائع الانتفاضة الإيرانية بالصوت والصورة. تسمعن الأهازيج وتقرأن الشعارات، تترجمهن على "غوغل". رهطٌ منهن يفرح، يُعيد نشر الفيديوهات والصور، معبرًا عن محبته الموصولة على وسائل التواصل الاجتماعي. يستنكر الإجرام الممارس والقمع، ينزل إلى الشارع بمسيرات تضامنية حاشدة. فيما رهطٌ آخر يستهجن ويحتقن غضبًا، فأرض ولاية الفقيه الشّيعية التّي نشرت ثقافتها وأيديولوجيتها محليًا وفي دول الجوار، تارةً بقوة السّلاح، وبالنفوذ الطائفي تارةً أخرى.لا إقصاء ولا تنميطالمرأة الإيرانية تغلي غضبًا وتمردًا لأول مرة بصورةٍ واضحة، منفلتة، مرئية وجذرية، زعزعت بوطأتها النظرة العالمية النمطية للنساء الإيرانيات، اللواتي أمطن اللثام عن عقودٍ من الاضطهاد والقمع لأجسادهن وحياتهن وحرياتهن.
لكن ماذا تفعل النسوة اللبنانيات المسلمات، وخصوصاً الشيعيات منهن في خضم كل هذا؟ ماذا تفعل تلك "المغمورات" بالأيديولوجيا التّي أهدرت حقوقهن وسلبت حرياتهن منذ بواكير أعمارهن، أكان قسرًا أو على قناعة بخيار وحيد مفروض عليهن؟ ماذا تفعل التّي لا شرطة أخلاقيةٍ تتعقبها بل شرطة اجتماعية وعائلية ودينية، تترصد شعرها وجسدها ورغباتها المستترة تحت قماشة رأس؟ هل تنتفض خالعة حجابها، أم تساوم على حريتها مقابل حياتها، أم تقتنع مجبرةً بفريضة دينية وثوابها المستحق لاحقًا؟
لسنا بمعرض إقصاء أو تنميط أو حتّى تمييز أي امرأة على أساس قناعاتها أو رغباتها أو حريتها باللباس، بل غاية هذا التساؤل هو ربط وتحليل وفهم الارتدادات الاجتماعية التّي خلفتها الثورة الإسلاميّة وثقافتها ومبادئها على بعض النساء الشيعيات، المنتميات لمجتمع مؤدلج بغالبيته بأيديولوجيا ولاية الفقيه الإيرانية، والمتأثر مباشرةً بنظمها الاجتماعية والدينية وأساليب تطبيقها. ففي حين يُفترض أن هذا المجتمع ينأى بنفسه عن أي تململ، ومحكم الإغلاق لدرجة عدم إمكانية تسرب أفراده من أُطره وقواعده الاجتماعية الصارمة، تنبثق في وجه هذا الافتراض، انتفاضة النسوة اللبنانيات القديمة على حجابهن، التّي طُمست منذ عقود بل وأُقصي غالبية أصحابها وأصبحن في حكم المرفوضين اجتماعيًا أو الموسومين بالإنحلال الأخلاقي أحيانًا، إلا أن هذه الانتفاضة ورغم التعتيم الممنهج كانت قد تفجرت في السنوات الأخيرة علانيةً وبروحية تمردية أشبه بالحالية في إيران.انتفاضة على الحجابففي حديثها مع "المدن" تروي زينة. س. (25 سنة، طالبة جامعية وموظفة في إحدى الشركات)، عن تجربتها في خلع الحجاب وردود الفعل المتباينة التّي أعقبت هذا القرار من قبل عائلتها ومجتمعها: "بداية أُلزمت على ارتداء الحجاب وأنا في التاسعة من عمري، كسائر الفتيات في عائلتي التّي تنتمي وتناصر حزب الله، أو حتّى متفرغة في العمل معه، وكما فرضت عليّ مدرستي الإسلامية، التّي تلتزم بتحجيب طالباتها في حرم مدرستها، وهن مقبلات على سن التكليف الشرعي، لم أكن بصراحة أعي ماهيته أو حتّى أبعاده، كل ما كنت أعرفه أنه فرض شرعي له ثوابه في الجنة. وفي غضون السنوات اللاحقة من المدرسة انتسبت لكشافة المهدي، التّي عملت على إقناعي بالحجاب من جهة التحصين من أي نية للانجرار في متاهة العادات والموضة الغربية الاستعمارية، والحفاظ على الحشمة والحياء في عصر الإنحلال الأخلاقي. وعندما التحقت بالجامعة وانفتحت على ثقافات جديدة ومتنوعة، وبدأت ألمس الهوة التّي تفصل بين ما تربيت عليه، وواقع الحقوق والحريات الحقيقية".
وتضيف زينة: "بداية، بدأت تدريجيًا أخلع عني البديهيات السّياسيّة والدينية غير المنطقية، وعندما قررت أخيرًا الإفصاح لأهلي عن رغبتي بخلع الحجاب رفضوا رفضًا قاطعًا، لكني كنت مصرّةً على موقفي. ولحظة خلعي الحجاب انهالت التهديدات عليّ من قبل عائلتي الممتدة وأفراد أسرتي، تهديدات بالضرب والقتل، وحملات واسعة على السوشيال ميديا، تعرضت للمباركين لي على قراري، ما اضطرني مجبرةً لترك منزل ذويّ في الضاحية الجنوبية لثلاثة أشهر، واستئجار شقة في بيروت المركزية، تزامن معها تهديد ووعيد مستمر، ما لبث أن انسحب ليطغى عليه الحديث عن الشرف والمهانة الاجتماعية التّي زعم أهلي أني سببتها لهم".وفي سؤالها عن علاقتها بذويها اليوم وتبعات هذا القرار على حياتها الشخصية: "بعد إقتناع أهلي بفشل كافة أساليبهم لإجباري على ارتداء الحجاب مجددًا، عدت إلى المنزل، خصوصاً أن الظروف الاقتصادية الحالية جعلت الاستقلالية خيارًا صعبًا جدًا. وفي الفترة الاولى عانيت الأمرين من قبلهم، كذلك من المجتمع المحيط وأصدقائي في المدرسة والجامعة، الذين رفضوا الحديث معي، بل ونعتني بعضهم بأوصاف المنحلين أخلاقيًا. لكني ما زلت متمسكة بخياري وفخورة بإقدامي عليه بالرغم من كل العقبات الاجتماعية".
عادةً وفي حالات مماثلة، يطغى خطاب الشرف والمهانة الاجتماعية على موقف أهل الفتاة أو المرأة التّي تقرر طوعًا خلع حجابها، بحجة الوصاية الشرعية عليها. إذ يعتبر البعض أن السفور هو مظهر لا بد أن يعقبه طرديًا إنحلال أخلاقي. وبالمقابل، من الواجب مجابهته وقمعه، حتّى على حساب بناتهن وأخواتهن وزوجاتهن. إلا أنّه وعلى خلاف القوانين المعتمدة في إيران، لا تبعات قانونية في التشريعات اللبنانية لهذا القرار. بل تقتصر التبعات على الرفض الاجتماعي، ونادرًا ما تمتد لتصل لحكم شرعي في المحاكم الشرعية.لبسته طوعًا وخلعته طوعًاالجدير بالذكر، أن ثورة الاتصالات وما أعقبها من انفتاح وربط المجتمعات ببعضها البعض عبر وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام البديل والحركات الحقوقية خصوصاً النسوية منها، قد خلفت في أعقابها انفتاح معظم الجماعات على الرأي الآخر ووجهات النظر المختلفة، وطورت فهمها لديناميكيات الحداثة والمدنية، التّي تُكرس في صلبها التقديس المطلق للحقوق والحريات. وفي لبنان، وكنتيجة للحركات الحقوقية، وانفتاح المجتمع اللبناني الطائفي عبر شبابه على هذه الحقوق والحريات، برز عند شريحة واسعة من أفراد المجتمع المتدين والمتزمت، ليونة فكرية وتقبلاً جذريًا للاختلاف، وبراغماتية مستحدثة في التربية والعلاقات.
وهنا تُشير سارة (23 سنة، طالبة جامعية) لـ"المدن" إلى تجربتها مع الحجاب وقرارها بخلعه لاحقًا: "لبست الحجاب عن قناعة وبعمر الإثني عشر عامًا، وذلك بعدما تأثرت بصديقاتي في مدرستي الإسلامية، وتقبل أهلي غير المتدينين هذا الواقع واحترموا رغبتي، وبل وشجعوني واشتروا لي كافة الحاجيات والملابس التّي تتناسب مع الحجاب الشرعي الذي اخترته. وبعد فترة وبُعيد التحاقي بالجامعة وانفتاحي على التنوع الطائفي والثقافي، رغبت بخلع الحجاب بعدما اضطربت قناعتي به. وعندما واجهت أهلي برغبتي هذه تقبلوها مجددًا. بل واحترموا قناعتي وخياري. لكن أصدقائي ومجتمعي المحيط كالعائلة الممتدة وجيراني لم يتقبلوا هذا الواقع، وقاطعوني. بل أن أفراداً منهم قاطعوا أهلي ونعتوهم بقلة الشرف وانحرافهم عن الدين الإسلامي. لكن أهلي لم يتأثروا بهذه المقاطعة، واعتبروا أن تقبلهم لخياراتي الشخصية هو التعبير الفعلي والصادق لحبهم لي واحترامهم، ولو على حساب علاقاتهم الاجتماعية"إيديولوجيا إيرانية؟"تعلمت في مدرسةٍ إسلامية فرضت عليّ لبس الحجاب في حرمها، كنت ألبس الحجاب في المدرسة وأخلعه عند عتبتها، عشت الازدواجية بأكمل صورها، فيما لم أسلم من تعليقات المعلمات على خياري بعدم ارتداء الحجاب. وقد حاولت مرارًا إقناع أهلي بتغيير مدرستي، إلا أنهم رفضوا لكون المدرسة قريبة من المنزل وأقساطها مقبولة مقارنةً بالمدراس الأهلية الموجودة في المنطقة. هذا الواقع جعلني أنفر بشكل حاد من الحجاب الذي ألزمت بارتداءه قسرًا لتحصيل علمي، ووقعت تحت ضغط كبير وأنا في عمر هش، فبين واقع اقتصادي صعب، والإقصاء الممنهج الذي تعرضت له من قبل زملائي بالمدرسة والمعلمات، فضلت الالتحاق بمدرسة رسمية ساومت فيها على تعليم جديّ مقابل حرية ملبسي وحقي بالاختيار". هكذا تقول فاطمة (16 عامًا) عند سؤالها عن الحجاب. وفاطمة التّي لا تزال طفلة حسب كافة التشريعات والقوانين، تعرضت لهذا الضغط فقط بسبب خيارها الشخصي.
يزعم بعض من المؤرخين والملمين بأحوال الطائفة الشيعية في لبنان، بحداثة النمط السّائد في فرض الحجاب بصورته الحالية، خصوصاً في الحقبة الممتدة منذ وصول الثورة الإسلامية الإيرانية إلى المناطق والمجتمعات الشيعية الريفية منها على وجه التحديد، والتّي عُرفت سابقًا بتدينها الفطري، إن صحّ القول، كفكرة الحجاب مثلاً، والذي لم يكن منتشرًا أو مفروضًا في أوساط المجتمع الشيعي قبل الثورة والتعبئة الثقافية والدينية والعسكرية التّي أعقبتها والتي انتشر معها شعار "حجابك يا أختي أغلى من دمي". فالمدراس الإسلامية الشيعية والجمعيات الكشفية أسهمت بدورها في ترسيخ هذه الظاهرة بوصفها فرضًا دينيًا لا حالة سياسية عند الشباب الشيعة، واقترنت لاحقًا بالتمايز الظاهري في شكل ارتداء الحجاب الشرعي وقواعده، والتّي تتصادم في أحيان كثيرة مع التنوع الطائفي، بل وحتّى في وظائف الدولة اللبنانية المدنية، على خلاف الجمهورية الإيرانية.
وإذ لا نجزم بتاتًا بأن النساء المحجبات بغالبيتهن ضحايا القمع والاضطهاد في لبنان، لا يمكن التغاضي أبدًا عن واقع شريحة واسعة من النساء اللواتي أجبرن قسرًا على إرتدائه في مخالفة صريحة لما كرسه الدستور اللبناني في مقدمته، والذي ضمن حق كافة المواطنين بالتعبير وحرية الاختيار.. وما ثورة الجدائل في إيران وانتفاضة بعض النسوة اللبنانيات على هذا الواقع سوى برهان على تطرف النظام الإيراني وأتباعه في المنطقة، وهدره الموصول لحقوق المواطنين وخصوصاً النساء اللواتي يدفعن فاتورة التحالفات السياسية ومطامع النظام الإيراني التوسعية، بأجسادهن وحرياتهن وأحيانًا أخرى بحياتهن.