بعد 22 عاماً على انسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان، بث التلفزيون العبري الرسمي "مكان" تقريراً مطولاً، يعكس تناقض الهوية الذي تعيشه عائلات ميليشيا جيش لبنان الجنوبي المتعاملة مع اسرائيل في الأراضي المحتلة، منذ هروبهم وحتى اليوم، محاولًا التفريق بين جيل الآباء والأبناء في مسألة الإندماج، ويضيئ على فتاة تقول إن "العودة مستحيلة، لن نترك كل شيء ونعود".
جاء التقرير في تسع دقائق وسبع وأربعين ثانية، بعنوان "التخبط بين الإندماج والهوية، نظرة من داخل عائلات جيش لبنان الجنوبي". حمّل التقرير مسؤولية إهمالهم إلى عدم إندماج جيل الآباء لقوات لحد الهاربين، عبر إظهارهم كـ"منعزلين دينياً وثقافياً، رفضوا الانغماس بالمجتمع اليهودي". ثم، إظهار جيل الأبناء الفتيّ كمنقسم على ذاته ومتباين في انطباعاته، وحتى في "عتبه" على إسرائيل؛ لـ"عدم احتضانهم لقاء ما قدموه لأمنها".
"يعتبروننا خونة"
يضخم التقرير تباين الآراء ويظهر عدم تجانسها لدى الجيل الجديد، عبر اختياره أربع فتيات من عائلات جيش لحد (بعضهن وُلدن في الاراضي المحتلة، وأخريات هربن مع عائلاتهن بعمر الطفولة دون الخمس سنوات)، هنّ سعدة، ومريم، وغراسيا، وريبيكا.. للحديث عن تجاربهن ومواقفهن "المتبانية" إزاء الموضوع.
يبدأ التقرير بإستذكار مريم يونس ليوم الهروب، بدءاً من مكالمة هاتفية من والدها مع أمها، يحثها على أخذ بناتهما مع حقيبة صغيرة، والتوجه حيث ينتظرهم عند الحدود. وانتظرت مريم مع عائلتها فترة طويلة حتى سُمح لهن بالعبور.
ويسأل معدّ التقرير عيران زينغر، مريم: "هل تغيرت نظرة المجتمع العربي في إسرائيل تجاهكم؟"، فتجيبه: "لا، يعتبروننا خونة، ولا اعتقد أنهم غيروا رأيهم".
تاريخ جيش لحد
وانتقل التقرير، بعد عرض مشاهد أرشيفية لقوات لحد وعائلاتهم وهم يهربون بحقائبهم إلى الحدود، إلى الفتاة غراسيا حاصباني البالغة من العمر 25 سنة، وكان عمرها ثلاث سنوات وقت الهروب (مولودة في مرجعيون). وتحدثت عن نظرة اليهود إليهم: "ثمة من يتقبلنا منهم، وآخرون يذكرونني بأنني عربية، وأنا لن أكف عن التعريف بهويتي".
وعرّف التقرير غراسيا كناشطة اجتماعية معروفة في مستوطنة كريات شمونة، تعمل في مجال التربية و"المحافظة على تاريخ جيش لبنان الجنوبي". وهنا، وجهت غراسيا نقداً لإسرائيل "لعدم توثيقها تاريخ جيش لحد"، عبر قولها: "لم يذكروا بتاتاً جيش لبنان الجنوبي، ولا بأي درس تاريخ بالمدرسة أو الجامعة".
ووصفت غراسيا تاريخ "لحد"، بـ"التاريخ الخفيّ؛ لأنهم في إسرائيل لا يتحدثون عنه بشكل كافٍ، ولا كونه جزءاً من تاريخ إسرائيل".
مُعدّ التقرير الإسرائيلي امتدح غراسيا التي تعمل في قسم الدورات في بلدية كريات شمونة، قائلا لها: "رغم أن عائلتك في الأصل ليست إسرائيلية، إلا أنك إسرائيلية خالصة في العمل والكينونة، وكانت عملية الأسرلة لديك سريعة جداً"، فتجيبه الفتاة بالعبرية "الطليقة"، ضاحكة: "نعم".
وحتى يخدم التقرير غايته الدعائية المنشودة، وهي تقسيم الجيل الجديد من عائلات لحد، وإظهاره متناقضاً وتائها، طرح المعد الإسرائيلي سؤالاً على غراسيا: "هل كل بنات وأبناء جيش لبنان الجنوبي مثلك؟"..لتجيبه: "لا، الأمر متغير، ومرتبط بالسن، فمن جاء في سن المراهقة عاش تجربة صعبة؛ لأنهم خرجوا من بيوتهم رغماً عنهم، وكانوا واعين للوضع ويتذكرون كل شيء".
ثم، تظهر والدة غراسيا وهي تتحدث العبرية بطلاقة أقل من ابنتها، مبررة عدم الإختلاط: "هكذا نحافظ على الدين، وكثيرون ممن تزوجوا من الديانات الأخرى، فشلوا. لكني أحب الجميع". وقالت إنه نقاش مستمر مع أبنائها.
ووصف التقرير، بعدها، جيل لحد الشابّ بـ"المختلف" عن الآباء، مستدلاً بـ"إدراك" غراسيا "بأننا أقلية في دولة أغلبها يهود، وهذا الإختلاط موجود، سواء أردنا أم لا".
عنصرية اسرائيل
أما ربيكا إبراهيم (19 عاما)، المولودة في إسرائيل بعد ثلاث سنوات من الهروب، فرأت أن نصب قتلى جيش لبنان الجنوبي هو الشاهد، بحجارته، على أنه "جزء من تاريخ إسرائيل، بالرغم من إغماض المدارس عمن يكون هذا الجيش".
وتُعرّف ربيكا أباها بأنه كان متحدثاً باسم الجنرال لحد ومدير مكتبه، واليوم "يعمل من أجل حقوق جيش لبنان الجنوبي". وتتولى الفتاة "الدعاية" للترويج لإسهامات قوات لحد لأمن إسرائيل، رغم تجاهلها.
وروت ربيكا مواقف عنصرية من "زملائها اليهود"، إذ استذكرت أن "يهودية كانت تعتبرها صديقة"، دخلت في جدل معها أيام المدرسة، فقالت عنها "مُخرّبة"؛ لأنها تتحدث العربية.
وعلقت ربيكا على صورة معلقة على نصب "جيش لحد"، تظهر طوابير طويلة من المركبات والأشخاص الهاربين من مصيرهم المجهول يوم الإنسحاب، على الحدود: "إنها صورة مهينة ومذلة وتدل على فشل؛ نتيجة الإنسحاب الإسرائيلي بهذا الشكل". وقرنت بقاءها في الأراضي الفلسطينية المحتلة بـ"اعترافها بإسهامات جيش لحد وتغيير نظرتها إلينا".
أزمة هوية
وانتقالا إلى مريم يونس، التي كانت في عمر الخامسة حين الهروب، إذْ روت كيف أن إسرائيل أغلقت الجدار في وجههم، قبل أن تضطر إلى فتحه، لإنعدام الخيار .
وتدرس مريم الإعلام، بموازاة عملها في قسم الناطق بلسان جامعة بار ايلان، وبررت اضطرارها للإندماج بالمجتمع اليهودي، بعد أن رفض المسيحيون الفلسطينيون القبول بهم في قراهم ومدارسهم.
بدت مريم متناقضة وتعيش أزمة هوية، حينما نفت تعرضها للعنصرية اليهودية، لتحدثها العربية، لكنها أقرّت، بأن جزءاً من اللبنانيين الهاربين لا يُعرّف نفسه كـ"عربي".
دفن والد مريم في لبنان، بعد وفاته، بقرار منه ومن العائلة. ويسألها معدّ التقرير: "أليس هذا دليل على إيمانكم بالعودة إلى لبنان ذات يوم؟". وردت عليه: "لم نكف أبدا عن الإيمان بذلك".
العودة مستحيلة
أما الشابة اللبنانية الرابعة، وتُدعى سعدة عطية، ذات السنوات الخمس عندما هربت رفقة والديها من قرية دبل إلى الاراضي المحتلة، فتعمل اليوم شرطية في لواء تل أبيب، ووصفت نظرات الريبة من الفلسطينيين حينما يسمعونها وهي تتكلم اللهجة اللبنانية.
ووجد التقرير ضالته في سعدة، باعتبارها أكثر انغماساً بالدعاية الإسرائيلية، إذ اعتبرت العودة إلى لبنان "حلماً مستحيلاً"، وتضيف: "قد نزور لبنان، لكن لن نترك كل شيء هنا".
ويختم التقرير ببروباغندا قائمة على تفتيت رأي اللبنانيات الأربعة (سعدة، مريم، غارسيا، ربيكة)، واصفا لهن بـ"إسرائيليات لبنانيات، بعضهن ترى أن مستقبلهن في إسرائيل، وأخريات يشككن بذلك ويرغبن بالعودة إلى لبنان، في ظل عدم اعتراف المحيط الإسرائيلي بهويتهن الخاصة".