كأنه وهو يقرر العزلة الاختيارية في مدينة الغردقة على ساحل البحر الأحمر، منذ أيار/مايو الماضي، كان يهيئ القلوب والأذهان للفراق الطويل، وها هو الفراق قد حدث من دون أن تتهيأ له قلوب أصدقائه الكثيرين وأذهان الملايين الذين عشقوا فنه وتابعوا مشواره الطويل عبر خمسين عاماً من الوقوف أمام كاميرا التمثيل، فمظاهرة الحزن والوجل التي أحاطت بمشهد جنازته وكلمات النعي تؤكد تلك المكانة الخاصة التي كان يتمتع بها الممثل الراحل هشام سليم بين أصدقائه فى الوسطين الفني والرياضي، وحالة الاهتمام والمتابعة التي خيّمت على محبيه في مصر والعالم العربي تفصح عن ذلك القدر الكبير من الاحترام والمحبة التي كان يكنها له جمهوره المرتبط أعماله الفنية على مدى نصف قرن.
فمنذ إعلان إصابة هشام سليم بالسرطان، قبل عام تقريباً، كان الرجل يختار العيش في هدوء ومن دون صخب إعلامي، ومع اشتداد العلة ووفاة زميله الممثل زكي فطين عبد الوهاب بالمرض ذاته في آذار/ مارس الماضي، فضّل سليم اختيار العزلة، ولم يكن يرد حتى على هاتفه إلا قليلاً، وفي المرات التي كان يضطر فيها للتوجه إلى القاهرة لاستكمال علاجه، كان يحيط زيارته الخاطفة بنطاق من السرية والتكتم. وقد التقطته هاتفياً في إحدى هذه المرات النادرة قبل أسابيع قليلة، وكان صوته رزيناً كعادته من دون أن يخلو من بعض المرح الذى يعينه على مقاومة المرض، وحين سألته لماذا ابتعدت عن محبيك واخترت العزلة في هذا المكان القصي وحرمت الكثيرين من زيارتك أو حتى الاطمئنان عليك هاتفياً؟ فأجاب: هذا هو ذاته السبب، لا أحب أن أتعب أحداً، أنا أعرف مصيري حتى ولو بعد حين، ولا أريد أن أرى نظرة حزن أو شفقة في عين أحد ممن أحببتهم وأحبوني، أما الناس الذين لا يعرفونني فيرونني خشن الطباع، بل ومغروراً أيضاً باعتباري ابن صالح سليم كابتن ورئيس النادي الأهلي، ولن يصدقوني وأنا أتألم أمامهم، ولهذا قررت أن أعيش ألمي وحدي، بعيداً ممن يتألمون لألمي، وأيضاً ممن يمكن ألا يصدقوا وجعي رغم أن أحداً ليس كبيراً على المرض". هذه هي مشاعره التي جعلت أصدقاءه يحبون صحبته ويتألمون لفراقه. ما بين يسرا وهشامقالت لي يسرا ذات يوم: لا أدري ماذا يمكن أن تكون عليه الحياة لو لم يكن فيها هشام سليم. قلت لها: لكنك في الواقع تزوجتِ أخيه المخرج خالد سليم، فردّت قائلة: الذي بيني وبين هشام أكبر بكثير من هذا الإطار الاجتماعي الضيق، هشام صديق العمر الذي تتكئ عليه عند الحاجة، وتستأنس به وقت الوحدة، وتسترشد برأيه حين تسود الأزمة، ولولاه لما شهدت حياتى الزوجية مع خالد هذا الاستقرار رغم بعض النوات التي لا أنكرها، والتي كان هشام الصديق والأخ عنصر التلطيف الذي تذوب عنده كل الخلافات. تذكرت هذه الكلمات وأنا أتابع انهيار يسرا فى جنازة الراحل هشام سليم وحولها الكثير من أصدقائها وأصدقاء فقيدها وفقيدهم.
(مشهد من "حرب الجواسيس")ولم يكن هشام سليم شجاعاً فقط في مواجهة مصيره المحتوم، لكنها كانت صفة أصيلة لازمته طيله حياته، ويبدو أنه اكتسبها من والده الذي كانت جرأته وشجاعته مثار اهتمام الجميع، نعم كان هشام شجاعاً وصاحب موقف حينما اعترف بتحول ابنته جنسياً وواجه مجتمعاً لم يتعوّد من فنان على مثل هذه الصراحة في في حياته الخاصة. كان شجاعاً وصاحب رأي، حينما جهر بوجهة نظر والده صالح سليم السلبية في الكابتن محمود الخطيب، على غير ما يروج له الرئيس الحالي للنادي الأهلي، ففتح على نفسه سيلاً من الهجوم من جانب بعض الجماهير الحمراء، والذي اعتبره هشام هجوماً مدفوع الأجر، وقرر على إثره عدم دخول النادي الذي تربى بين جدرانه. أيضاً كان شجاعاً وصاحب بصيرة عندما أيقن أن السينما تكاد تلفظ جيله لأسباب تتعلق بتقدم العمر وظهور تيار الكوميديا، بداية من فيلم "إسماعيلية رايح جاي"(1997). جيل الوسط المظلومفهذا الجيل هو الذي قُدّر له أن يدهسَه جيلان. الأول هو جيل أحمد زكي وفاروق الفيشاوي وما تبقى من مقاومة جيل نور الشريف ومحمود ياسين، وجيل آخر هو جيل سينما الشباب أحمد السقا وأحمد حلمي ومحمد هنيدي وأحمد عز وغيرهم. وأمام إدراك هشام سليم لقصر عمر جيله سينمائياً، قرر باكراً البحث عن طريق آخر عبر الدراما التلفزيونية حتى قبل أن ينتبه بقية أبناء جيله أمثال ممدوح عبد العليم وهشام عبد الحميد وشريف منير لصدق نظرته ويحذوا حذوه. فإذا بذيوع الدراما التلفزيزنية وانتشارها يعيدان من جديد طرح اسم هشام سليم وأبناء جيله في خريطة شاشة السينما، فبعد نجاحه اللافت في الكثير من المسلسلات مثل "ليالي الحلمية" و"أرابيسك"، "أهالينا"، "امرأة من زمن الحب"، "أهل اسكندرية"، "هوانم غاردن سيتي"، "محمود المصري"، "حرب الجواسيس"، وغيرها.. عاد حضور هشام سليم بالتوازي إلى شريط السينما، بتفاصيل أخرى تلائم حالة النضوج الفني التي بات يتمتع بها، خذ لذلك مثلاً أفلاماً مثل "الناظر"، "جمال عبد الناصر"، "العاصفة"، "أين عمري"، "خيانة مشروعة"، "الأولة في الغرام"، و"45 يوماً". والأمر الملفت أن أي نجاح سينمائي كان يقوده إلى نجاح تلفزيوني مماثل، فمع زياراته السينمائية، حتى وإن قَلّت، كان وجوده التلفزيوني محسوساً بشدة، وصولاً إلى أعماله الأخيرة "كلبش 3" و"هجمة مرتدة" وغيرهما. وطوال مشواره الفني كان هشام سليم يحيل بكل تواضع نجاحه إلى عناصر مساعدة بل ورئيسية أحياناً، وكان يقول لي: لا أحد يصنع نجاحه بمفرده، أنا أداة منفذة لوجهة نظر مخرج أو معبّرة عن ورق مؤلف، هل كنت أفهم شيئاً وأنا طفل أواجه سيدة الشاشة فاتن حمامة في أول أفلامي "امبراطورية ميم" العام 1972؟ لولا المخرج حسين كمال، لما نجحت، كذلك لولا الرائع يوسف شاهين لما تمكنت من الوقوف أمام ماجدة الرومي في "عودة الابن الضال" العام 1976، ولولا ورق أسامة أنور عكاشة في "ليالي الحلمية" و"أرابيسك"، و"أهالينا"، و"امرأة من زمن الحب" - وجميعها من إخراج إسماعيل عبد الحافظ باستثناء أرابيسك الذي أخرجه جمال عبد الحميد - لفقد معظم المشاركين في هذه الأعمال قدراً كبيراً من بريقهم وأوّلهم هشام سليم.ولئن لم ينل هشام سليم من بريق النجومية حظّ ممثلين آخرين، رغم أنه كان يستحقه بجدارة، فإنه كان حالة فنية خاصة من حيث الاختيار والأداء ضمنت له التميز بين أقرانه والبقاء فى ذاكرة عشاقه من الجمهور، ولئن كان قدره أن يعيش شهوره الأخيرة معذباً بالألم والوحدة ينتظر بشجاعة مصيره المحتوم. وتراه كان يردّد في هذه المحنة رائعة صلاح جاهين وكمال الطويل في "عودة الابن الضال": "آدي اللي كان، وآدى القدر، وآدى المصير... راح اللي راح ما عادش فاضل كتير".