لم تكتفِ السّلطة اللبنانية بالاستعانة بشماعة اللجوء السّوري في أراضيها لتبرير الأزمات الاقتصادية والسّياسية المستفحلة، بل تجاوز الأمر حدود إلقاء اللّوم المستمر على اللاجئين السوريين، بوصفهم المحتل القديم والمنافس الجديد على لقمة العيش، ليطاول مؤخرًا بديهيات الحقوق الإنسانية اللصيقة كالتعليم. علماً أن هذا اللاجئ هو الذي استجلب مساعدات بمئات الملايين من الدولارات لقطاع التعليم الرسمي (راجع "المدن"). إذ يتنطح ممثلو السّلطة ومسؤوليها اليوم وبالخطاب الديموغاجي نفسه المكرر، وبالروحية التحريضية ذاتها، لتحميل الطلاب اللّاجئين مسؤولية الانهيار في قطاع التعليم الرسمي، فضلاً عن استفزاز الأحقاد الدفينة تجاههم، لاستجداء المزيد من الدعم من الجهات المانحة، وتسييس هذا الملف علانيةً للضغط على اللاجئين للعودة إلى بلادهم. كل هذا عوضًا عن سدّ منافذ الهدر أو اجتراح الحلول المناسبة المبنية على سياسات واقعية لإطلاق العام الدراسي، لضمان حقّ التعليم للجميع.
وفي خضم الجدل الذي أثارته قضية تعليم اللاجئين السّوريين مؤخرًا على الصعيدين السّياسيّ والتربوي، وتخوف المجتمع الدولي والجهات المانحة فضلاً عن القيمين على هذا الملف، من ضياع كل مساعيهم المستمرة لضمان هذا الحقّ، والمظلومية الفضائحية التّي يتعرض لها الأساتذة والمدرسين في التعليم الرسمي، خصوصاً في فترة بعض الظهر (الخاصة بتعليم اللاجئين)، والعقبات القانونية والإدارية التّي تعرقل تسجيل الطلاب السوريين في المدارس الرسمية ،المنهارة أصلاً، بسبب فساد المعنيين الذين حولوا "حنفية" الدعم الدولي مصدرًا لمراكمة الثروات غير الشرعية. تتجلى اليوم العقبات متخذةً طابعًا إنحدارياً ومصيرياً، يحدوها تبعات تربوية وأمنية واجتماعية متفاقمة التأزم على المدى القريب والبعيد.تراجع ملحوظ في نسبة التعلّميعاني الطلّاب اللاجئون المسجّلون في المدارس الرسميّة في لبنان، منذ ما قبل الأزمة أصلاً، من صعوبات كبيرة تعيق مسيرة التعلّم، فإلى جانب رداءة العيش في المخيمات والعشوائيات والظروف المعيشية والاقتصادية والاجتماعية والصحيّة القاسية، والمشكلات التقنية والإدارية التّي يعاني منها الطلاب اللاجئون وذويهم للتسجيل في هذه المدارس، إزدادت هذه الصعوبات في آخر ثلاث سنوات بصورة أكبر، وواقع تعجيزي مُضاف، تسبب طرديًا بتوقف نسبة كبيرة منهم عن التعليم والتحاقهم بسوق العمل المتعثر أساسًا.
ففي آخر إحصاء أصدرته المفوضية العليا لشؤون اللاجئين السوريين في لبنان مطلع العام الحالي، بلغت نسبة الطلاب منهم المسجلين في المدراس اللبنانية حوالى 51.80% بينما تناهز نسبة غير الملتحقين بالمدرسة 48.20%، وذلك من مجموع الطلاب المسجلين في المفوضية، والذي يبلغ حوالى 321 ألفًا. ورغم عدم توافر أي إحصاء رسمي لأعداد الطلاب اللاجئين المسجلين في المدراس اللبنانية هذا العام، لا من قبل وزارة التربية والتعليم العالي (التّي رفضت التصريح إعلاميًا عن هذا الموضوع)، والتشكيك الدائم بمصداقية إحصائيتها المبالغ بها، للاستفادة بأكبر قدر من الدعم، ولا حتّى من أي شركائها المعنيين في هذا الملف، كالمفوضية العليا أو اليونيسف، يطغى إحتمال كبير بالتسرب الدراسي لعدد لا يُستهان به من الطلاب اللاجئين، لأسباب عدّة طرحتها مديرة مركز الدراسات اللبنانية، والمشرفة على العديد من الدراسات البحثية في مجال الوصول إلى التعليم وجودته، الدكتورة مها شعيب، في حديثها مع "المدن": "أولاً تكمن المشكلة الأساسية في تدني جودة التعليم وإمكانية الحصول عليه بعدد ساعات وأيام محددة، إذ أن على الطالب حضور 15 أسبوعاً حتّى يترفّع إلى الصف التالي، مقسمة على 25 حصّة أسبوعيّة تتوزّع على خمس حصص في اليوم (5 أيّام)، وتدرّس فيها المواد الأساسيّة. لكن في ظلّ الإضرابات والإقفالات، وأزمة التعليم عن بعد وغياب وسائلها كالإنترنت والأجهزة الإلكترونية عن اللاجئين، لم يعد بمقدرة غالبية الطلاب متابعة تعليمهم، وإحراز المطلوب. كما ولأن القطاع التعليمي الرسمي أساسًا في حالة من التهالك، ووجود اللاجئين قد شكل ضغطًا إضافيًا، فضلاً عن كونهم الورقة التّي تستخدمها الدولة اللبنانية في نقاشاتها مع الجهات المانحة لتلقي الدعم، وتهديدها المستمر بوقف تعليمهم، هذا وناهيك عن حرمان الأساتذة من مستحقاتهم الفعلية التّي تمولها الجهات المانحة بالدولار الفريش".حقوق الأساتذة مهدورةوفي هذا السّياق، أفادت إحدى المعلمات في الدوام المسائي المخصص لتعليم اللاجئين السوريين، أن الأساتذة لم يتلقوا منذ أشهر مستحقاتهم فضلاً عن المساعدات الاجتماعية وبدلات النقل قائلةً: "نحن كمدرسين نتعرض لأكبر عملية نصب وتفقير من قبل الدولة اللبنانية ممثلةً بوزارة التربية والتعليم العالي، إذ أن أجورنا ممولة من قبل اليونيسف والمفوضية العليا لشؤون اللاجئين، وبالفريش دولار، إلا أننا نتلقاها بالليرة اللبنانية وعلى سعر الصرف الرسمي السّابق (1500 ليرة)، فمن أصل عشرين دولاراً على الحصة الواحدة، نتلقى حوالى الدولار الواحد مقابل أتعابنا أي أقل من 40 ألف ليرة، وذلك كل أربعة شهور، لا شهريًا. كما وتجدر الإشارة أننا لم نتلقى أجورنا، فضلاً عن المساعدة الاجتماعية بقيمة 90 دولاراً أميركياً وبدلات النقل، منذ شهر كانون الأول من العام الماضي تقريبًا".
كما وأشارت مصادر "المدن" المتابعة، أن هذا الواقع المأساوي يشمل فقط الأساتذة من جهة التمييز في تلقي الأجور. إذ أن وحدة التعليم الشامل والإرشاد التربويّ تتلقى مستحقاتها بالدولار الأميركيّ حتّى اليوم، وبالرغم من كل الإضرابات والمطالبات من قبل الأساتذة لقبض مستحقاتهم، لا تجاوب واضحاً من قبل الوزارة حتّى الآن، فضلاً عن تقصير وحدة التعليم الشامل عن دفع الأجور، وبل إزداد الأمر سوءًا السنة الماضية، امتد ليصل إلى توقف العام الدراسي السّابق وتعطيل التعليم على اللاجئين، مما تسبب بتسرب نسبة كبيرة منهم كما هو متوقع هذه السنة مع تصعيد الإضرابات وجديتها.حصرية التعليم والإهمالبلهجةٍ لا تخلو من شماتة، أكدّ وزير التربية والتعليم العالي في حكومة تصريف الأعمال عباس حلبي، في اجتماعه مع الجهات المانحة منذ قرابة الأسبوعين، "أن لبنان لن يقترض لتعليم غير اللبنانيين"، في إشارة لأطفال اللاجئين السّوريين، وذلك عند سؤال ممثل البنك الدولي عن طلب لبنان مساعدة ( حوالى 157 مليون دولار أميركي) في ظلّ عدم تطبيق الإصلاحات المطلوبة. ومنها دمج اللاجئين السّوريين بالطلاب اللبنانيين المسجلين في المدارس الرسميّة اللبنانية.
وهنا تشرح شعيب "إنّ إصرار الدولة اللبنانية على أن يكون تعليم اللاجئين محصوراً بالقطاع الحكومي، من دون تأمين إقامات وأوراق نظامية، تسمح للطلاب بالتسجيل في امتحانات الشهادات الرسمية، حوّل التعليم إلى قضية ابتزاز للطلاب وللمنظمات الدولية التي تموّل هذا القطاع، وذلك بحجة جودة التعليم. والمعلوم أن الحجة الأساسية هي لنهب التمويل والدعم. أما انبثاق شرط الدمج المستجد، وتخوف المعنيين من طرح خيار "التوطين" والتهديد بغلق أبواب المدارس الرسميّة بوجه الطلاب اللاجئين، فهو عذر جديد للحصول على المزيد من الأموال الدولية لدعم الوزارة لا اللاجئين، وأرى أن الدولة هي المسؤولة عن تعليم طلابها. وإفلاسها بسبب الفساد لا يعني شرعنة التهديد بوقف تعليم اللاجئين أو محاسبة الجهات المانحة، والتغاضي عن الهدر في آخر خمس سنوات، الذي لم تقم أي من الجهات المعنية بالتحقيق فيه، وأقتصر الأمر على بعض المراجع الحقوقية والإعلامية. والفساد في ملف تعليم اللاجئين السّوريين لا يمكن عزله عن الفساد المستشري في كافة مفاصل الدولة اللبنانية، وهذا الفساد ينعكس مباشرة على أوضاع تعليم السّوريين للأسف. وعوضًا عن تهديدهم والتعاطي معهم بفوقية وابتزازهم يجب الاعتذار منهم، لأننا حشرناهم بقضايا الفساد بعدما طرحت الدولة اللبنانية نفسها كدولة مضيفة، وجعلت تعليمهم غير جديّ بظروف صعبة وقاسية. وهذا الضغط العنصري ما هو سوى برهان على تنصل الدولة اللبنانية من مسؤولياتها وإصرارها على حصرية التعليم ضمن مناهجها لإبتزاز الممولين تحت تهديد إعادة اللاجئين إلى أراضيهم، وهي اليوم تتحمل كافة المسؤولية تجاههم وتجاه الطلاب اللبنانين".ردّ المفوضيّة العليا لشؤون اللاجئين وعند سؤال "المدن" المفوضيّة العليا لشؤون اللاجئين السوريين في لبنان عن الإشكالية المستجدة والمتعلقة بتعليم اللاجئين السّوريين، كان ردّ المفوضية كالتالي: "إن العلم والتعليم من أولويات الأمم المتحدة وشركائها. وتواصل المفوضية وشركاؤها دعم وزارة التربية والتعليم العالي عبر تنفيذ الخطة الخمسية للحكومة اللبنانية بشأن التعليم والتنسيق مع الوزارة على المستويين المركزي والإقليمي والدعوة إلى تضمين اللاجئين في النظام الوطني. وتبذل الأمم المتحدة وشركاؤها قصارى جهدهم لضمان التحاق جميع الأطفال، لبنانيين ولاجئين، بالمدارس. يمثل الوضع الاقتصادي والمالي تحديًا كبيرًا، لكننا نعمل عن كثب مع وزارة التربية والتعليم العالي والشركاء لضمان التعليم لجميع الأطفال في لبنان".إلى الأزمة التربوية الضاربة، واحتمال توقف العام الدراسي الرسمي المقبل والإهدار المزمن لمزيد من الحقوق في هذا البلد المنكوب، هناك بُعد آخر لموضوعنا، هو اعتماد السّلطة اللبنانية الفاسدة على سياساتها العنصرية والابتزازية لشحذ المزيد من الدعم، وتنصلها المستمر من مسؤولياتها تجاه مواطنيها فضلاً عن المقيمين على الأراضي اللبنانية، أولاً بالتفقير الممنهج بعد سنوات من النهب والهدر، وثانيًا بسلبهم أولى حقوقهم وبديهيات العيش. فالسّلطة التّي جعلت اللاجئ "مكسر عصا" ورهينة لعنصرية المواطن اللبناني المفقر، الذي اعتبر الأجنبي السبب في وضعه، هي نفسها السّلطة التّي نهبت المليارات من الدولارات على حساب اللاجئ السّوري، ولم توقع اتفاقية واحدة تجعله لاجئاً، واكتفت بتسميته نازحاً لتتهرب من مسؤولياتها تجاهه. وهي لن تكف عن شحذ العصب العنصري عندما تتعرض لأي مساءلة. واليوم تتذرع بملف التعليم كي تنهب المزيد والمزيد من الدعم على ظهر اللاجئ نفسه الذي ارتكبت بحقه أفظع الجرائم الإنسانية والحقوقية.