مع بدء العدّ العكسي لانطلاق العام الدراسي الجديد، تعود النقاشات حول السّياسات المعتمدة لضمان حقّ التعليم في لبنان. وعليه، يستجدّ في صفوف المعنيين بهذا القطاع تخوف وقلق من إمكانية إهدارهذا الحقّ أسوةً بباقي الحقوق الأوليّة المهدورة في هذا البلد المنكوب، وكذلك القلق من تبعات هذا الهدر، أولاً عبر حرمان جيل برمته من حقه في التعليم الأساسي الجديّ والكفوء، وما يترتب عن ذلك من أزمات حقوقية واجتماعية واقتصادية. وثانيًا، من انهيار آخر ما تبقى من الرساميل البشريّة التّي تُشكل العصب الأساسي لإقامة أي دولة، من كادر تعليمي وأجيال مؤسسة ومسؤولة لاحقًا عن مصيرها الفردي والجماعي.
وفي ظلّ الانهيار المؤسساتي المُطرد، وتغاضي السّلطة اللبنانية بفسادها ولاشرعيتها عن حماية قطاع التعليم بشقيه العام والخاص بكافة مراحله، وتحميل موظفي هذا القطاع أعباء الانهيار واكتفائها بالحلول الترقيعية والوعود المؤقتة، يعيش موظفو قطاع التعليم فضلاً عن الطلاب وأهاليهم على كافة الأراضي اللبنانية حالة من الترقب، منتظرين أي خطة إنقاذية لتفادي أزمة جديدة أو حتّى تأجليها. وكالعادة، تحتدم الأزمات وتتفاقم ويتخذ الانهيار وتيرةً أشدّ وعورةً وإنحدارًا في محافظة بعلبك –الهرمل. فالجيل البقاعي الجديد، مُهدد اليوم جديًا بتوقفه عن التعليم بكافة مراحله وبشقيه العام والخاص. وهذا الواقع يأتي نتيجة لسنوات من أفظع أنواع التهميش والإقصاء الممنهج لمنطقة تُركت فريسة للمحاصصات والمنازعات السّياسيّة والعشائرية، وللآن لا يبدو هناك أي مخرج فعليّ مطروح لمعالجة هذه الأزمة، فيما يكتفي المعنيون بتقاذف الاتهامات وتحميل المسؤوليات، متناسين مسؤوليتهم تجاه جيل كامل محروم من أولى حقوقه وأهمها.نزوح طلابي وأزمة تعليم رسمييكثر الحديث اليوم عن نزوح طلابي بأعداد ضخمة من المدارس الخاصة إلى المدارس الرسمية، فيما تتهافت التحذيرات من قبل المعنيين والمسؤولين من تبعات هذا النزوح، الذي طرأ بعد ثلاثة أعوام دراسية كارثية شهدها الطلاب اللبنانيون على كافة الأراضي اللبنانية، من أزمة معيشية واقتصادية وإقفالات مستمرة نتيجة الإضرابات والتظاهرات، وصولاً للتعليم عن بُعد بالتزامن مع إنتشار جائحة كوفيد- 19، وفي وسط الانهيار الدراماتيكي الذي حلّ بالتعليم الرسمي، كما باقي القطاعات العامة، يبرز هذا النزوح كردّ فعل متخبط للطلاب وذويهم المفقرين.
وقد أشار مرصد الأزمة في الجامعة الأميركية في دراسة نُشرت له سابقًا، عن انتقال حوالى 55 ألف طالب من التعليم الخاص إلى الرسمي خلال العام الدراسي الفائت، ذلك بعدما كانت غالبية الأسر اللبنانية قبل الأزمة، بنسبة تقدر بحوالى 70% تعتمد على التعليم الخاص، سيّما في المرحلتين الإبتدائية والمتوسطة. وعزت هذا الانتقال لواقع الأزمة الاقتصادية المستفحلة فضلاً عن خسارة معظم الأسر لمدخراتها ومداخيلها بعد أزمة المصارف.
وفي بعلبك -الهرمل يتخذ هذا النزوح طابعًا مميزًا يختلف جذريًا عن غيره في باقي المناطق، إذ أن التعليم الرسمي لطالما شكل الخيار الأول لدى الأسرالمتعثرة أصلاً قبل الأزمة، والتّي تُشكل غالبية سكان المنطقة. واليوم باتت هذه الأسر لا طاقة لها حتّى على تسجيل أطفالها في المدارس الرسمية لعدّة أسباب منها: تضخم كلفة الكتب والقرطاسية التّي بغالبيتها باتت مدولرة، وتباعد التوزيع الجغرافي لهذه المدارس بما يتوافق مع مساكن الأسر التي تعمد لتسجيل أطفالها فيها، فمثلاً الثانوية الرسمية الوحيدة المتوفرة في قضاء بعلبك هي المجمع الثانوي في دورس في أطراف مدينة بعلبك، بينما معظم المسجلين فيها هم من الضيع والبلدات المجاورة والتّي تبعد على أقلّ تقدير 20 كيلومترًا. ومعظم هؤلاء لم يعدّ بإستطاعتهم تكبّد كلفة النقل إلى هذه الثانوية البعيدة عن أماكن سكنهم، التّي قد تصل إلى مئة دولار شهريًا، فضلاً عن الإنتقال إلى جوارها. أما السّبب الأبرز فهو عدم مقدرة المدراس في لبنان وخصوصاً في منطقة بعلبك- الهرمل عن فتح أبوابها للوافدين إليها للتسجيل فضلاً عن الدراسة.إضراب تعليميوفي هذا السّياق تشرح إحدى المعلمات المتفرغات في ثانوية دورس العامة- للفتيات، في حديثها مع "المدن" عن واقع أزمة التعليم الرسمي في المنطقة، إذ أن ثانويتها لم تفتح أبوابها للتسجيل بعد، ناهيك عن بدء العام الدراسي الذي كان من المقرر إنطلاقته في 15 أيلول الجاري، مشيرةً إلى العائق الأبرز وهو انعدام القدرة الشتغيلية لهذه المدارس، فالموازنات والمداخيل لا تزال محجوزة في المصارف، أو إن أُفرج عنها فهي بالليرة اللبنانية على سعر الصرف الرسمي، فبالتالي لا يمكن سداد ما يتوجب على هذه المدارس من شراء مازوت للتدفئة والإنارة وقرطاسية كما ودفع أجور المياومين للتنظيفات والخدمة، لكونها بغالبيتها تتوجب علينا بالفريش دولار.
وتُضيف أن الأزمة المتمخضة من هذا العجز هو رفض الأساتذة ممثلين بروابط التعليم الرسمي، الإنطلاقة بهذا العام الدراسي برواتب شبه منعدمة، إذ أن الحدّ الأقصى لراتب أي موظف أو أستاذ لا يتجاوز الملايين الثلاثة ونصفها، من دون دفع أي بدلات نقل أو مساعدات اجتماعية. هذه الظروف المأساوية التّي يعيشها الأستاذ/ة تحول دون فكهم الإضراب الحالي، حتّى توافر الدعم أو القرار الذي قد يسهم في حلحلة أوضاعهم، كدولرة رواتبهم على سعر صرف الثمانية آلاف ليرة لبنانية أو توزيع المساعدة الاجتماعية الشهرية بقيمة 90 دولاراً أميركياً. وشددت على أن الرابطة التعليمية في بعلبك تتواصل دائمًا مع الجهات المعنية. وقد تلقت وعوداً بالدعم من قبل الجهات المانحة. وعلى هذا المبدأ قد تستأنف الروابط التعليمية عملها.
وحسب ما قالت الأستاذة لـ"المدن" فإن العام الماضي كان كارثيًا بطبيعة الحال، لكن ما حال دون توقفه هو توزيع اليونسيف للمازوت. لكن اليوم وبعد رفع الدعم عن المحروقات وإرتهان أسعارها للدولار المتأرجح، والتّي قد تكلف بالمعدل الوسطي وفقط للتدفئة ما يفوق 500 مليون ليرة. هذا المبلغ الذي لا يمكن تأمينه من قبل المدرسة فضلاً عن الوزارة، وبالتالي العام الدراسي مهدد بالإيقاف إن لم يتوافر الدعم الحقيقي، والذي يكفي لتأمين الحدّ الأدنى من الحاجات الأساسية والأولية لإنطلاقته، رغم دعم بعض البلديات، التي قامت بدعم المدراس الرسمية الموجودة في حيزها الجغرافي، فيما لا تعمد بلدية بعلبك إلى تقديم أي دعم أو مساعدة.
وتعلّق: "نشهد انهياراً دراماتيكياً وأزمة حقيقية اليوم. إذ أن أزمة التسرب الدراسي تشتد، ونخسر سنويًا ما يقارب 30 طالبًا، حتّى وصلنا في العام الدراسي السّابق إلى 200 طالب في الصفوف الثانوية، فمعظم الأهالي اليوم لا يمكنهم دفع بدلات النقل أو حتّى المصاريف الثانوية لأطفالهم، فالسنة الماضية شهدنا واقعة إنسانية مؤسفة، إذ أن إحدى الطالبات في مدرستنا تتغيب كل يومين عن المدرسة لتأتي أختها مكانها في الباص، لأن والدهما لا يمكنه تسجيل الأختين في الباص. هذا الواقع يتفاقم اليوم وقد نشهد موجة تسرب دراسي مستجدة ومتضخمة، فضلاً عن عمالة الأطفال لمساعدة ذويهم في هذه الظروف.المدارس الخاصةأما الرهط الآخر من الأهالي الذين نقلوا أولادهم من المدراس الرسمية إلى الخاصة لضمان تعليمهم، فصدموا بواقع دولرة الأقساط في هذه المدارس التّي عادةً ما تتمركز في المدن البقاعية كبعلبك والهرمل، فمدرسة الراهبات مثلاً، والتّي هي مقصد لجميع الطلاب في بعلبك وجوارها، قامت بزيادة أقساطها لتتجاوز 12 مليون ليرة، مصحوبةً بدفع 300 دولار أميركي فريش، لصندوق دعم الأساتذة والمعلمات فيها، وهنا يقول أحد أهالي المسجلين فيها لـ"المدن": "نقلت أولادي من مدرسة رسمية إلى هذه المدرسة لأضمن تعليمهم بوصفه الاستثمار الوحيد المتبقي لي، ورغم أني قد دفعت حتى الآن ما يتجاوز العشرة ملايين ليرة بين قرطاسية وحجز نقليات، لا أرى خياراً آخر متوافراً، فلن أحرم أطفالي من حقهم بالتعليم ولو اضطررت الإستدانة لدفع المستحقات المتوجبة عليّ".
مدرسة المهدي التّي يقصدها معظم مناصري حزب الله، قدمت منحاً اجتماعية لمناصريها، فضلاً عن أن أغلب المتفرغين في حزب الله يدفعون أقساطاً رمزية لتسجيل أطفالهم. هذا الواقع تسبب بشرخ طبقي واسع امتد ليشمل حق الأطفال بالتعليم، إذ أن المتحزبين والذين يستفيدون من تأرجح الدولار باتوا الوحيدين القادرين على تسجيل أطفالهم في المدارس وتعليمهم، وكذلك بعض العشائر التي راكمت أرباحها الدولارية بطرق غير مشروعة، فيما يلبث المواطن المفقر في وجل وحيرةٍ من أمره، مكتوف اليدين أمام وطأة الأزمة المستفحلة، منتظرًا وعودًا من دولته التّي تناسته لعقود.
لا شكّ أن التعليم في لبنان اليوم بات حكرًا على الطبقات المتمولة والميسورة، أما الطبقات المتعثرة فتتخبط لتوفير أدنى مقومات العيش، مستغنيةً عن الأساسيات والبديهيات من حقوقها، ولعل منطقة بعلبك- الهرمل أبرز مثال قد يُضرب لتصوير هذا الشرخ الطبقي والهوة الكالحة من التفقير. وسكان شرق لبنان المأزوم بحاجة ماسة اليوم لخطط إنقاذية طارئة، خصوصاً وهم مقبلون على نكبات اجتماعية وثقافية مستجدة، لها ما لها من تبعات على المستقبل القريب والبعيد.